على خشبة «مسرح المدينة»، تنطلق اليوم عروض «أنتيغون السورية» التي عرّف صنّاعها بأنّها إعادة تأويل لنصّ سوفوكليس من قبل مجموعة من النساء السوريات. النص المبني على قصص نساء تركن حلب، وحماه، وريف دمشق ودرعا، يرتق مفهوماً مختلفاً لتراجيديا أنتيغون.
وبالتالي هو ينحّي التراجيديا اليونانية لصالح ما قد يسمى «ما فوق المأساة» أو «ما فوق التراجيديا»: حين تصبح المأساة فعلاً لانهائياً يحدث كل يوم وكل دقيقة، وحين نختبرها على الخشبة بأجساد وأصوات أهل المأساة أنفسهم، حينها، يختفي إطار البطولة المعهود.
التراجيديا اليونانية التي اعتدناها بجوقة تتلو في ٢٤ ساعة مأساة فرد واحد اجتمعت فيه وحده سمات البطولة، تتحول هنا إلى امرأة أمام الكومبيوتر تسرد تفاصيل مأساة مجموعة من النساء، وجوقة من الألم. هنا نقطة التحول الأولى: فرد يتلو مأساة الجوقة/ الجماعة. تتلو تلك المرأة مذكراتها منفذةً «طلب عمر ومحمد (المخرج والدراماتورج) بأن تكتب كل امرأة مذكراتها حول تلك التجربة حتى آخر يوم من التمارين التي تسبق العرض». هذه المرأة جاءت إلى هذا العرض لأنّ إحدى جاراتها في مخيّم شاتيلا حدثتها عن معونة جديدة (المعونة مسرحية): لم تعرف ماذا تعني تلك العبارة... جل ما أرادته هو الخروج من أسوار مخيم شاتيلا.
هي الآن على الخشبة، تنتقل من تاريخ إلى آخر، ناقلة مشاعرها ومكنوناتها منذ اليوم الأول للقاء المجموعة حتى الساعات القليلة التي تسبق العرض. تدخن سيجارةً بين حين وآخر، وتمهد للمشاهد الفردية لكل امرأة من الجوقة: هنا تظهر أنتيغون السورية.
أنتيغون السوفوكلية التي تحدّت الطاغية كريون بدفن أخيها بولينيس، وحصدت الموت عقاباً لها. في عرض المخرج عمر أبوسعدى، والدراماتورج محمد العطار، أنتيغون هي الحاجّة فدوى، ومنى ورضية وانتصار. جوقة من النساء التراجيديات اللواتي بلغن في مأساتهن أقصى حد حين رفضن الموت مصيراً.
يطرح العرض اسئلة عن
مفهوم البطولة والمأساة

في لحظات شبيهة، يبدو وصولهن الى «موت أنتيغوني سوفوكلي» فعل سهولة: الحاجّة فدوى التي أصرّت على تهريب كل عائلتها من مخيم اليرموك الى لبنان، فقدت ولديها الاثنين. تراجيديتها القصوى أنّ أكبر ولديها توفي أمام عينيها وهو في نزهة أمام بحر بيروت، ثم فقدت أصغر ولديها الذي توفي بعيداً عنها وهو خارج من الصلاة في اليرموك. منى التي تتلو مذكراتها وتصل قصص كل تلك النساء بعضها ببعض خلال العرض، لم تتمكن من دفن ابنها بدر المصاب باللوكيميا كما يجب. لم تضع شاهداً على قبره حتى. ورضية تعرّضت لدى وصولها الى لبنان مع سائر ركاب الباص لنوبة شتم وضرب لأنّ امرأة من الباص أجابت عن السؤال الذي يبث الخوف في كل فرد سوري في لبنان: «إنتو مع المعارضة أو النظام»، فكان جوابها أنّها مع المعارضة.
نحن في عصر ما فوق المأساة حين ينشد شعب بأكمله حريته ويتحدى الطاغية، فتتفجر أمامه مجموعة من الطغاة: لا نتحدث هنا عن طغاة المعارضة والنظام فقط. في هذا العرض، يتخطى مفهوم الطاغية الشق السياسي ليبلغ ديكتاتوريات منزلية صغيرة كرجل يفرض على زوجته التي تبلغ ١٤ عاماً أن تضع النقاب.
ما نتحدث عنه هنا هو «ما فوق التراجيديا» حين يكون كل ما ورد أعلاه ليس جزءاً من مأساة مبنية على ميثولوجيا بهدف إثارة الخوف والشفقة لدى المتلقي. تلك وقائع وحقائق رغبت صاحباتها في بوحها. هناك خوف حقيقي يأتي من عيون أولئك النساء. ولا ضير إن تلعثمت إحداهن أو نسيت نصها: التلعثم هنا ليس سوى جزء من محاربة الخوف على الخشبة. هو محاولة ضرورية لالتقاط النفس لهول ما ارتكب بحقهن.
لا شك في أن شجاعتهن في الوقوف على الخشبة وسرد حكاياهن كبيرة جداً، ولا يقتصر موضوع العرض على السرد والتوثيق فقط. تساؤلات كثيرة دعانا العرض الى طرحها حول شخصية أنتيغون وما هو مفهومنا للبطولة والمأساة بعد كل نمر به اليوم؟ هل كانت أنتيغون لتصر على دفن أخيها لو كان على كتفها طفل رضيع؟ هل كانت أنتيغون لتطلب الموت لو وُجدت في زمن «تخصيب» الموت وتحويله الى وجبة «فاست فود» أو سلعة؟
سعى فريق العمل المؤلف من المخرج عمر أبو سعدة والدراماتورج محمد العطار ومدربة الممثلات حلا عمران الى ترك النساء على سجيتهن. في الواقع، وظف فريق العمل «أنتيغون» ليحثهن على التخفف من ثقل أدوارهن كأمهات وأخوات وزوجات عبر منحهن ملكة التعبير عن آلامهن فقط لا غير. لم يسع الى جعلهن ممثلات، بل ترك لهن رسم تفاصيل أنتيغون السورية عبر عمل متقن على النص.
من يتابع التسلسل الدرامي لنصوص هؤلاء النساء، سيجد ــ رغم حلقة الآلام المحكمة تلك ــ توقاً إلى الحياة ممزوجاً بعجز، ممزوجين بدورهما بقبول مؤقت، بتمسك بأمل ما ولو كان ضئيلاً: لشدة الألم، أصبح تعاملهن معه متقناً إلى درجة تصبح لحظة الاعتراف الوحيدة بوجوده بتلك الشفافية هي على الخشبة. انتهت البروفة. موجعة جداً كانت مشاهدة هذا العرض.
تتقدم جوقة السيدات لتحيّي الجمهور مع ابتسامات وضحكات كبيرة وموجة من المزاح. الضحك سبيلهن الوحيد إلى الصمود. جمالية مسرحية «أنتيغون السورية» كامنة في كونها توثق يوميات عرض لم يحصل. عرض يستنبط بطولات يومية هامشية. الصمت بطولة. الضحك بطولة.

* «أنتيغون السورية»: بدءاً من اليوم حتى 12 كانون الأول (ديسمبر) ــــ «مسرح المدينة» (الحمرا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 71/427900