بالأمس تسربت من «أجراس الياسمين» دقات حزن خافتة، بطيئة، كأنها وقعُ القدر. النبأ الذي كنا نتخوف منه في سرّنا، جاءنا على غفلة حين لم نعد نتوقعه وبدأنا نصدّق «الأعجوبة». لقد مات سعيد عقل. يومان بعد صباح. يا للمصادفة الغريبة. ماذا يحدث في لبنان؟ كأنّ عصراً برمّته قرر أن ينتهي فجأة، بعد احتضار سرّي طويل. لبنان الأسطورة، تلك الصخرة المعلّقة بالنجم، لبنان الادعاءات والأوهام الجميلة، لبنان الرخامة اللفظية والإطناب، لبنان الخرافة الصوتية والحلم الحضاري والعِزّة القومية، لبنان القصيدة المكتملة أيضاً، ينكسر ككريستال الصالون الذي كان يتطيّر منه صغار العائلة، وتختفي فقاعات لم تبرح مرحلة الطفولة بين براءة و... سذاجة!
إنها النهاية الرسمية لصورة معينة عن لبنان، قاومت الزمن طويلاً، تمردت على كل أشكال الحروب والتشظيات. أستاذ سعيد انسحب بالتدريج، كان قد أخذ ينزوي ويتقوقع على نفسه. خرج من دائرة الضوء، شيئاً فشيئاً. ثم مضى الشاعر الزحلاوي صاحب القامة الضخمة، والشَعر المنفوش والحاجبين الكثيفين، الشاعر الذي يتكلّم بيديه ويخاطب معاصريه ـــ والآلهة وسائر المجرّات ـــ بصوت ونبرة هما من سمات العرّافين والرسل والحكماء. المعلم الاشكالي الذي يعتز بأنه درس الفقه كما درس اللاهوت، والشاعر الذي لم يعترف بأنّه راكَم الروائع والسقطات، جمع طوال حياته بين الحكمة والشعر، بين الميثولوجيا والتاريخ، الفلسفة والدين، الفخر الجاهلي والغنائية الرومنطيقية، البرناسية والرمزية، التمرد على القوالب والكلاسيكية المطلقة، الثقافة الانسانويّة الشخصانية والنزعة الشوفينية، التبادعية والهذيان، المعمعة السياسية والوعي الطوباوي الغيبي... جمع بين التراجيديا والملحمة من جهة، والكوميديا والـ farce والتهريج في بعض الأحيان.
نستعيد كل ذلك ونحن نلقي على صاحب «رندلى» التحية الأخيرة. نعترف له بأنّه آخر الشعراء الكلاسيكيين وأحد أكبر شعراء العرب في القرن العشرين. دفع الفصاحة إلى آخرها، وطوّع العَروض وفكّك أوزان الخليل لينفحَ فيها روحاً جذلى كالتي لمعشوقاته الافتراضيات وبطلاته المستعصيات. مُعاصر السياب وعبد الصبور وخليل حاوي، جدّد قلب القصيدة الكلاسيكية وقالبها، ابتكر في اللغة والموسيقى والايقاع والصور والمجاز والرمز... فعل كل ذلك وعينه على حداثة تبهره وتخيفه. هو «الرجعي» الذي يكره فرويد وماركس وبيكاسو. ويخاف الحداثة كما يخاف جسد المرأة، كما يريعه تحقق الرغبة. كان يؤلّه أمه ويحتقر في لاوعيه النساء الأخريات و«نجاسة» أجسادهن (هِـمْ بالنظر، أبقى الأثر ما لم يزل موصدا...). كان يحب الجمال طالما انه غيبيّ وفوقيّ (أجملُ منك لا). هكذا اعتكف في «جبل البرناس»، على خطى بول فاليري وشعراء النحت الواعي، حتى قال عنه صلاح لبكي إنه ينحت اللغة بلا إحساس، ويتغزل بالمرأة بلا شعور. أما أدونيس، فصنّفه في «مقدمة الشعر العربي» ضمن مدرسة «الرومنطيقية الشكلية». ورأى أنه «يحتل مكانا بارزاً، بل حاسماً، في تنقية اللغة الشعرية التي كانت سائدة قبله، وايصالها بحد ذاتها الى مدى جمالي قصيّ».
سقطات سعيد عقل السياسية فظيعة (العداء العنصري للشعب الفلسطيني، وإن في سياق حرب أهليّة، والفخ الاسرائيلي، علماً انه كان يؤمن فعلاً أن الخطر الحقيقي على «لبنان» هو اسرائيل). لكنّ هذه السقطات جزء من تناقضاته، وفي كل الأحوال لا تقلّل من أهميته كشاعر، كما لم تقلّل سقطات فردينان سيلين وعزرا باوند العنصرية والنازية، من أهميتهما في تاريخ الأدب العالمي. ذلك أن سعيد عقل بطل مأسوي، أراد من خلال ملحمته الشعرية «قدموس» أن يهندس «الروح اللبنانية»! هذا الوعي الغيبي، المدرسي، هو بصراحة جزء لا يتجزّأ من الشخصية اللبنانية. ولا يمكننا أن نتصور الحالة اللبنانية، بإشكالياتها وتناقضاتها ووجهها المظلم أيضاً، من دون سعيد عقل. وفي الوقت نفسه، فإن نبيّ «اللبنانولوجيا» ـــ من الرواقي زينون إلى طور إيل الجبيلي، مروراً بأوروبا وأليسار ـــ غنّى دمشق بأروع القصائد (أهـلكِ التّاريـخُ من فُضْلَتِهم ذِكرُهم، في عُروةِ الدَّهرِ وِسَـامْ…). لقد «انعزل» في دعوة القومية اللبنانية، هارباً من الفكر القومي السوري، واستبدل بها حساً عروبياً كامناً في تكوينه وإرثه وثقافته ولغته وعواطفه، كما يتجلّى في نشيد «العروة الوثقى» الذي ألفه أواخر الثلاثينيات (ولنا صهلة الخيل من الهند الى الاندلس).
ليس سعيد عقل سوى رومنسي مثالي، يشكل مساره سلسلة ارتطامات بالواقع. في التناقضات التي هي في صميم تاريخنا الحديث، يكمن سر عبقريته، ومن الصدمات التي خضع لها تولدت ابداعاته الفريدة وسقطاته المروعة. دونكيشوت الذي أمضى عمره يضرب طواحين الهواء بسيفه الكرتون، كان يعيش في عالم طوباوي ومثالي ومجرد. وأحلامه أخذتنا إلى ذروة الشعر. وإلى آخر الفصاحة. ومن دون أن نتنازل الآن عن حق النقد القاسي والصريح، لهذه الشخصية الفذة، الاستثنائية في الذاكرة الوطنية وفي سجل الثقافة العربية، لا بد من أن نقبلها كما هي، بكل وجوهها، وننحني أمام النعش وهو يدخل التاريخ. على كل حال، فإن سعيد عقل دخل تاريخ الأدب منذ عقود وانتهى. انتهى عندما استسلم لهذيان اللغة اللبنانية والحرف اللاتيني، (علماً أن قصائده العامية القديمة التي تلقف بعضها الرحابنة، وحملها صوت فيروز، هي من عيون الشعر)... كان الأستاذ سعيد قد أسدل الستار على ابداعه الشعري منتصف السبعينيات مع بداية الحرب الأهلية. الآن ها هو الشاعر يسدل الستار على حياته ويمضي إلى نجمته المعلّقة… لقد إلتحقَ الطيف بالأسطورة.
10 تعليق
التعليقات
-
لنا منه الشعرلنا من سعيد عقل الشاعر وخذوا الباقي ، خذوا السياسي والإنسان ، أعطانا كلمات رائعة نتغنّى بها ، لنتخيّل أننا لانعرف قائلها ، هل نعرف كل من أمتعنا كلمة أو لحنا أو صوتا ؟! كثر هم من لانعرف من أي خلفية فكرية أتوا فهل يمكننا الفصل ؟! لاأظن الأخبار إلا تنعيه شاعرا وحسب وليته بقي شاعرا وحسب ولم يقحم نفسه في زواريب السياسة القذرة ! ورغم ذلك يبقى السؤال كيف يمكن للإنسان أن يكون بهذه الازدواجية أم أنه منعطف خطير سار به وانزلق ناسيا كل كلمات الجمال في حق شامنا وقدسنا وبيروتنا ،جميل أن بعض المقالات وقفت عند مواقفه ولم تهملها لتترك لكل قارئ طريقته في قراءة هذا العزاء ، هل استحقّه أم لم يستحقّه ؟!
-
رثاء شاعر نصف الكأس الممتليءسائليني يا شآم اليوم عنه من يقل لي كيف أستجدي الخطابْ كيف لي أرثيه من كان كبيراً وعظيماً كان اسماً في كتاب موقف صعبٌ مهيبٌ لمحبٍ هل لمثلي أن يعزّي بالمصابْ أين من قلبي حبيب قد تسامى ترك الأمجاد (عقلٌ ) ثم غابْ كيف غابت عنه دنيانا (سعيدٌ) هل لنجمٍ أن يوارى في الترابْ إرثه ، تاريخ ماضيه : عريقٌ قبل أن يكبو- مليء بالصواب إن رأيتم خطأ منه اجتهاداً فله أجران إن يوماً أصاب هل تروا نصفاً لكأسٍ قد مليء. كوبه ملآى رحيقاً لا يعاب كان موهوباً فغنّى ، وأديباً طاب شعراً وهو بالصنع مثاب أيها الأصحاب : عزّو بفقيدٍ إن توفّي : فله حسن المآب`
-
محاولتان فلسطينيتان لدفع سعيد عقل للاعتذار للشعب الفلسطيني جرت محاولتان فاشلتان لجعل سعيد عقل يتراجع عن خطيئته بحق الشعب الفلسطيني: الأولى حاولها ( محمود درويش 1982) قبل خروجه من بيروت. والمحاولة الثانية حاولها ( عزالدين المناصرة 2000) كشف عنها (الدكتور جهاد نعمان) في جريدة اللواء اللبنانية حيث قال بأن رسالة الشاعر المناصرة الى سعيد عقل التي طالبه فيها الاعتذار عن فعلته عام 1982 ... كانت بلا نتيجة ودون جدوى.
-
سعيد عقل القصيدةمقال يعكس شخصية سعيد عقل المتقلبة بكل تناقضاتها وقد اسهب بيار بوصفها وعدها سقطات، الرجل عاش ١٠٢ سنّة وكلنا يعلم ما قام به بال ٨٢ من تصريحاته الى كتباته بجريدة لبنان،ولكن هل كان وحده من أيد (الاسرائليينن) ام انه كان يشكل حالة عرفها لبنان بأنقسامه حول نفسه نتركها للتاريخ ونستقي منها العبر. من الأعوام التي عاشها سقط بعضها سهوا، ولكن لا يمكننا أبدا الإغفال عما كتبه من أجمل القصائد، فالنركز فقد على عظمة الشعر وعلى تسعون من عمره. سوف تبقى شخصية سعيد عقل مثيرة للجدل هكذا هي شخصية العظماء،فأن كتبت عنها الاخبار سوف ينهال عليها النقد، وان تجاهلتها سوف تنتقد. نيتشه قال بموت الله ومع ذلك مازال يقرأ من المؤمنون بعد موته بمئات السنين.
-
لبنان"إنها النهاية الرسمية لصورة معينة عن لبنان" ؟ قال احدهم البارحة:"سعيد عقل هو المستقبل الذي نعد به المجد" ...من أجمل ما قيل في رثائه . لن يكون لبنان إذا لم تتحقق صورة سعيد عقل عنه. نهاية هذه الصورة هي نهاية لبنان . بأي لبنان تريدوننا أن نحلم؟ (سؤال إلى اليسار خاصةً). ما هي صورتكم ؟ هل تتصورونها ؟ الأوطان الجميلة يرسمها الحالمون (وليس الفقراء منهم) . مشروعكم مبين حتى ألان حزين ، تعيس ! عفكرة له بتستحو من كلمة مجد؟ حتى الإتحاد السوفياتي عندو مجد. إستمتعتو بمجد نصر الحزب على إسرائيل.. بدكن تتعودوا عفكرة لبنان والمجد. سيبقى دائماً من يحمل هذا الصورة وهذه ليست النهاية .
-
الشاعر سعيد عقل: " على كلالشاعر سعيد عقل: " على كل لبناني ان يقتل فلسطيني"...اي ان كل هذا العشق للفن والجمال والادب والشعر لم تسعف شاعرنا من كبح جماح الشيطان الذي كان يقبع بداخله او ان يخفي تعطشه للقتل والدماء...الشعراء سيدي الكاتب اكثر حساسية ونبلا" من ذلك....قد يكون سعيد عقل قد امتلك ناصية اللغه واتقن تطويعها في شعره بألق ولكننا نعلم ايضا" ان اكثر الناس لباقة واحسنهم هنداما" هم النصابين والمحتالين...
-
ماذا عن تصريحه هذا للتلفزيون الاسرائيلي؟سيدي الكريم، مع الأخذ بعين الاعتبار كل ما يمثل سعيد عقل من الجانب الثقافي ولكن في اي خانة يمكنكم وضع تصريحه هذا للتلفزيون الاسرائيلي اثناء او بعد اجتياح اسرائيل للبنان؟ http://YouTube.be/6N66xiMf6w و لكم الشكر. حماد
-
لا شكرا يابيار ويا أخبارانت من وقف للبطرك حينما زار الأراضي المحتلة. ماسبب هذا التسخيف؟ سقطات سعيد عقل السياسية فظيعة (العداء العنصري للشعب الفلسطيني، وإن في سياق حرب أهليّة، والفخ الاسرائيلي؟ ماهذا التبسيط والتسخيف للموضوع؟ لماذا تعترضون على فرقة غنت في الأراضي المحتلة ثم جاءت الى لبنان؟ او على مبدأ العمالة وجهة نظر وظروف حتمت على الإنسان أن يسلكها؟ ولماذا لم تتحفنا بسقطته الثانية حينما أصدر جريدته وكان العنوان الأول هو التحية الكبرى لأبطال عملية صبرا وشاتيلا.أما لماذا تغير في 2006 وحيا المقاومة؟ فالسؤال يوجه إلى وليد جنبلاط وكثيرين في هذا المكان الموبوء لبنان. اتركوا لنا موقفا للأجيال تميز فيه بين الصح والخطأ بعيدًا من الميوعة الفكرية التي سممتنا بها الليبرالية الفكرية
-
سيغج غانسبوغ و سانشو بانثا و طواحين جريدة الأخباركلام جميل، جداً جميل و لكن لا يبقى منه سوى الريح! من المحزن أن تنتهي جريدة الأخبار إلى هذا المآل (ملل من تعداد المقالات المكتوبة هنا عن الشاعر التي تطالبنا بفصل الفن عن السياسة... في جدلية لا تنتهي!). و لكن إن كان محرر قسم ثقافة و ناس ناشراً لصورة غانسبوغ على حسابه التويتري (http://www.youtube.com/watch?v=JKAlhsZTtzM ( فليس من المستغرب أن يعجب بسعيد عقل- علماً بأنّ لغانسبوغ من المسوغات ما ليس لدى عقل. و لكن ربما هذا معبّر بحق عن الحالة البائسة التي وصلت لها الثقافة (بمعناها الشامل) في العالم العربي و التي تجعل وقوعهم في " الفخاخ" عمليةً سهلة! كان من الأولى رثاؤها لا رثاءه. سيلين و عزرا باوند تمت محاكمتهما بتهمة الخيانة و لا يزالا موضوع جدل إلى اليوم في بلدانهم. كان حريّاً ب"ثقافة و ناس" أن تقارن إرث عقل بإرث دانونزيو (و لا أظن أنّه مجهول لدى كاتب هذا المقال). و لكن باسم ما تبقى لكم من الآلهة : لا تضعوا اسمي الحاوي و ابن جيكور بجانب اسمه. شاعرك ليس دون كيخوته بل سانشو بانثا في أحسن الظروف. فهو الذي جعله ثيربانتس، و هو يكتب في زمن لا يقارن بزمننا، يتفاخر بأنّه "مسيحي قديم"!