إعداد كتاب عن مخرج بحجم داود عبد السيد (1946) ليس مهمّة سهلة. الناقد السينمائي والسيناريست المصري أحمد شوقي (1984) يعترف بذلك، إثر تكليفه بتحرير دراسة تكريم عن سينما المخرج المصري المعروف. المناسبة كانت «مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط» الذي كرّم عبد السيد في دورته الثلاثين قبل شهرين. «العرض كان أكبر من أن يُرفض» يقول شوقي في مستهل كتابه «داود عبد السيد... محاورات أحمد شوقي». ثمّة حبّ واحترام للمخرج المكرَّم، منذ سنّ السابعة حين شاهد «الكيت كات» (1991).
استمرّ ذلك مع أحمد شوقي كناقد هاو يكتب مقالاً عن «رسائل البحر» (2010) «يمنحه قدراً من الاعتراف»، ثم الدراسة السينمائية الأولى عن «الصعاليك» (1985). هذا التقديم يبيّن مدى خصوصيّة الكتاب بالنسبة إلى صاحبه. الجهد الكبير في إنجازه يبدو متوقعاً. شوقي من طراز النقاد الشباب أصحاب الأفكار الجديدة والطازجة. هؤلاء يستفيدون من ميّزات التكنولوجيا وسهولة التواصل في التوثيق وجمع المعلومات. في الوقت نفسه، يكنّون احتراماً كبيراً لإرث الكبار. هكذا، استوحى شوقي من كتاب «صلاح أبو سيف... محاورات هاشم النحاس» لإنجاز كتابه، فأفضل تكريم أن يتحدّث المبدع بنفسه، حيث ينقل للقارئ «فلسفته وآراءه وأسلوبه الفكري والسينمائي». من جهته، وافق داود عبد السيد على الحوارات رغم انشغاله في إنهاء تصوير ومونتاج فيلمه التاسع «قدرات غير عادية» (العرض الأوّل في «مهرجان دبي السينمائي» الشهر المقبل).
شاهد شوقي أفلام عبد السيد الثمانية بدقّة. يمكن القول إنّه هضمها مشهداً مشهداً، وخرج منها بعصارة نقد وتحليل وظّفها في حوار صاحبها. حوار «حي» ينساب بين ناقد متمكّن من مفاتيحه وماهر في توقيت أسئلته ومداخلاته، وبين صانع أفلام كبير لا يبخل في المعلومة والانفتاح على أيّ استفسار أو نقاش. النتيجة مبهجة إلى حدّ كبير. كتاب التكريم يصبح مرجعاً لا يمكن تجاوزه عند البحث في سينما الأستاذ. دراسة تجمع بين النقد والتوثيق والرأي الشخصي. تفترض معرفة القارئ بالأفلام، فتغوص فيها مباشرةً من دون شرح طويل. داود عبد السيد عميق وقريب كما أفلامه، لا يدّعي ولا يدين ولا ينظّر، هو فقط يكون نفسه. سنعلم عنه الكثير، قراره أن يصبح مخرجاً بعد زيارة «استوديو جلال»، وانطباع طلاء أحد الجدران على «تي شيرته». التوجّه نحو إنجاز أفلام يمكن مشاهدتها أكثر من مرّة إثر حضور «أورفيو الأسود» لمارسيل كامو. السيناريو الروائي الأوّل «كفاح رجال الأعمال» الذي لم يرَ النور. سنعرف أنّ البحث عن إنتاج لـ «الكيت كات» استغرق خمس سنوات،
نقرأ عن علاقته بنجوم
كنور الشريف ومحمود عبد
العزيز وأحمد زكي


بسبب احتياجه إلى بناء حارة خاصّة، أو لأنّه «فيلم كئيب» بحسب بعض المنتجين. سنقرأ عن علاقته بنجوم أمثال نور الشريف ومحمود عبد العزيز وأحمد زكي، وإصراره على خياراته الفنيّة. الحال مختلفة مع فاتن حمامة في «أرض الأحلام» (1993). هنا، يتحقق «الصراع بين سينما المخرج وسينما النجم، لصناعة فيلم يحمل صياغة وسطى بين عالمي المخرج والنجم، لكنّه في الوقت نفسه لا ينتمي لأيّ من العالمين بنسبة مئة في المئة». علاقته مع الرقابة ليست سلسة بطبيعة الحال، ولكن لطالما تمكّن من تمرير ما يريد. استبدال كل كلمة «عشة» للإشارة إلى المكان بكلمة «بيت»، كان كافياً لتوافق الرقابة على سيناريو «سارق الفرح» (1995). داود عبد السيد يتوسّع في الكلام عن كلّ شيء. يتحدّث عن منتجي اليوم الذين أقنعوا النجوم بالوقوف ضد الأفلام المغايرة كالتي يصنعها. يبدو مرتاحاً لتطوّر المعدّات وتقنيّات المونتاج. لقد صوّر فيلمه الأخير «قدرات غير عادية» بكاميرا «أليكسا»، مستغنياً عن الخام للمرّة الأولى. يثني على مستوى مسلسلات التلفزيون حالياً، ويعتبرها «مفرخةً» للممثلين الجيدين. آراء أشبه بإرشادات لصنّاع الأفلام الجدد، بعيداً من التلقين الذي يكرهه. مانيفستو ثريّ عن تحوّلات في سينما المؤلف المصريّة خلال العقود الأخيرة. من صفاته الجميلة أنّه لا يجد حرجاً في الرد بـ «لا أعرف» و«أحتاج لمراجعة الفيلم حتى أجيب على السؤال». هذا دليل آخر على قوّة أداء شوقي في التحليل والنبش. الأرقام مهمّة بالنسبة إلى الناقد الشاب. ها هو يلاحظ وجود خمسة مشاهد لعلاقات جنسيّة في «الصعاليك»، ويطرح على المخرج مقارنات بين أفعال وأسماء شخوص على امتداد الفيلموغرافيا الخاصة به. بالتأكيد لم يكن هذا المجهود مثمراً، لو لم يقابله الطرف الآخر في مستوى عال من الفكر والإغناء.
بعد أسئلة وإجابات ممتدة على أقسام «البداية» و«الأفلام» و«حوار» و«شذرات»، يصل شوقي في الكتاب إلى «إعادة قراءة». سبع خلاصات نقديّة تتعلّق بسينما داود عبد السيد هي: التنوّع السردي وحس التجريب، الإنسانيّة في مواجهة الماديّة، حبّ الشخصيات وتفهّم دوافعها، الجنس كفعل إنساني معتاد، عشق المكان، الإيمان الكامل بالحريّة، الإمتاع. ختاماً، يوثّق للـ «فيلموغرافيا» مع «ألبوم صور»، يضمّ الأفيشات وصوراً من الأفلام والكواليس وحتى «داود طفلاً».
ثمّة بعض الأخطاء الإملائية، وملاحظة فنيّة تتعلّق بتمييز السؤال عن الجواب في بعض الأقسام. كذلك، هناك عبارة «يقول الأستاذ داود عبد السيد» الواردة في بداية كل حديث. هذه أمور ثانويّة. المهم أنّه يمكننا النصح بإصدار دسم عن حقبة من السينما المصرية وأحد أبرز صنّاعها. كتاب يحثّ على إعادة مشاهدة فيلموغرافيا داود عبد السيّد، وحتى مجايليه أمثال محمد خان وخيري بشارة، بنظرة أكثر فهماً ونضجاً.