عاد جيرار أفيديسيان الى الخشبة اللبنانية بعد غياب طويل ليقدم مونودراما «عودة الست لميا» في «مسرح الجميزة». اذا نحن نتحدث في هذا العرض عن عودتين، بل ثلاث: «عودة الست لميا»، عودة جيرار أفيديسيان الى المسرح وعودة الممثلة رلى حمادة. كيف تجتمع تلك العودات الثلاث لتقدم لنا موضوعاً حساساً كهذا الذي طرحه العرض المنقسم الى جزءين: وحدة امرأة في منتصف الأربعين تتحدث الى الحائط في مونتريال والى المسبح لدى عودتها الى بيروت.

تحدثهما عن زوجها (يوسف حداد) الذي بات لا يسألها الا عن الكبة كل خميس ولم يعد هناك رابط بينهما، وعن أولادهم الذي أصبح لكل منهم حياته الخاصة، عن الجارة والصديقة ليلو وصديقة الطفولة التي لطالما كرهتها أيام المدرسة. تقوم بذلك وهي قابعة في مطبخها في بلاد الصقيع تعب كؤوس النبيذ وتسرد سردها سريعاً للحائط منتقلة من موضوع الى آخر علها تبعد شعور الوحدة عنها. تتنقل حمادة بسلاسة من موضوع الى آخر ومن تفصيل إلى آخر، محيلة موضوعاً ثقيلاً ومتعباً كموضوع الوحدة إلى قالب كوميدي.
هذا النص الذي كتبه أفيديسيان منذ عشر سنوات، أراده كوميدياً وخفيفاً لا يخلو من لحظات درامية سرعان ما تهرب منها لميا إلى الكوميديا. حين قررت لميا العودة الى بيروت، كان ذلك بعد ٢٠ عاماً من الغياب عن بلاد الشمس. أتت اليها صديقتها ليلو في مونتريال لتبلغها أنها ستعود الى بيروت لبيع الشقة التي حصلت عليها من زوجها اثر طلاقها منه بعد اكتشافها خيانته لها مع رجل. ليس ذلك تفصيلاً هامشياً في قصة السيدة لميا التي تعاني من كبت عاطفي وجنسي في آن نتيجة إهمال زوجها لها. وليس كذلك عرضياً أن يكون «قصر البحر» المنتجع الذي مكثتا فيه هي وليلو في بيروت، ملكاً لصديقة الطفولة التي لطالما كرهتها وغارت منها: تلك الفتاة التي كانت مثالية أيام الدراسة أصبحت ميليارديرية نتيجة ممارستها لأقدم مهنة في العالم. تبيع جسدها لمتمولين كبار من العالم.
مواقف طريفة أمتعتنا بها حمادة وروح فكاهية اكتنفها النص



أراد أفيديسيان في مكان ما أن يوسّع هوة الوحدة تلك التي تعاني منها لميا: هي ليست وحيدة فقط نتيجة إهمال عائلتها لها بعدما ضحت بكل شيء لأجلها، بل وحدتها الكبرى تكمن في واقع هجر لميا لذاتها. وهنا نتحدث عن لميا التي كانت قبل الزواج. لميا اده لا لميا حداد. لميا اده لم تعد تجد مفاتيح نفسها. لميا حداد أقفلت كل الأبواب عليها وها هي تعود اذاً الى بيروت فارغة من كل شيء علها تستعيد لميا اده.
تخلل العرض المونودرامي دخول مدير المسرح ومساعديه لتغيير الديكور لحظة انتقال لميا من مطبخ مونتريال الى منتجع بيروت. هكذا، جاء مكان الحائط الذي رسم عليه شباك في بداية العرض، حائط آخر حيث توجد رسومات لمجموعة من الأشجار. هذا النمط في استعمال الحائط الذي تتخلله رسوم في خلفية الخشبة يذكّرنا بالمسرح الاستعراضي في السبعينيات والثمانينيات في لبنان وهو المسرح الذي أتى منه أفيديسيان وتأثر به بطبيعة الحال.
بالنسبة إلى أفيديسيان، هذا النمط من الرسوم على حائط ممسرح يذكره ببراءة الأِشياء. الا أن تلك اللحظة، لحظة الانتقال من المشهد الأول إلى المشهد الثاني كانت ضعيفة بعض الشيء.
لا شك في أن تلك القصة غنية بتفاصيل مثيرة وبمضامين عميقة تتعلق بحياة المرأة المتفانية بشكل عام. ولا شك في أنّ العرض تميز بحضور رلى حمادة وبسعي الكاتب والمخرج جيرار أفيديسيان لتقديم نصه ضمن قالب كوميدي خفيف ينبض بدينامية في إيقاع العرض. لكن تلك الخفة التي سعى اليها المخرج وجب تمتينها بلحظات تجعل مأساة تلك المرأة ووحدتها أكثر بروزاً في سياق العرض. السرد المتواصل الذي تقوم به لميا لتفاصيل حياتها هروباً من وحدتها يستحق لحظات صمت. لا نقصد لحظات صمت أدائية فقط بل صمتاً يدعو لميا الى مواجهة وحدتها. لميا سعت كل الوقت للهروب من وحدتها ولكنها لم تواجهها ولو للحظات في سياق العرض. سمعنا أحاديث كثيرة عن زوج تقليدي، وجارة مونتريال وقصص ليلو... كلها كانت تسردها لميا للحائط أو للمسبح لتجزية الوقت. على المشاهد أن يرى بشكل محسوس الدافع الذي دعا لميا لسرد كل تلك المكنونات لحائط. على المشاهد أن يحس بتلك اللحظة الفاصلة التي تسبق عملية الهروب من الوحدة. كانت رلى حمادة تتنقل أحياناً من فعل الى آخر ومن نص الى آخر بشكل أوتوماتيكي يعود لغياب هذا الخط الدرامي الموجود خلف الكلام الذي يدعو شخصية لميا لمواجهة وحدتها على الخشبة وأمام الحائط والمشاهد في آونة واحدة. المواقف الطريفة التي متعتنا بها رلى حمادة والروح الفكاهية في النص لا تلغيان وجود الحزن في حياة لميا، وينبغي أن يكون ذلك جلياً في سياق العرض. لحظات قليلة من الحزن كانت لتكون كافية.

«عودة الست لميا»: 20:30 من الخميس حتى الأحد ــ «مسرح الجميزة» ـ للاستعلام: 409109/76