بعيداً عن التأريخ الإنساني والسياسي لانطلاق الانتفاضات العربية، ثمة بداية أخرى.. ثقافية. في الحقيقة، كانت هذه البداية توطئة للانتفاضات بمعنى ما. أن تسبق فعل التمرّد بخطوة ثقافية رائدة يعني أنك تقرأ واقع هذه المنطقة بدقة عالية. لا يمكن عملياً فصل موقع «جدليّة» عن الانتفاضات، كما لا يمكن تجاهل هذا التزامن. ربما لم يكن يخطر في بال مؤسّسي الموقع بأن الرياح الآتية ستميل (ولو مؤقتاً) لمصلحة الشعوب المضطهَدة في المنطقة، لكن من المؤكد أنهم استطاعوا التناغم مع التغيّرات الدراماتيكية الكثيرة التي طرأت خلال أربع سنوات، ليبدأوا عامهم الخامس بهمّة مَنْ لم يفقد الأمل بعد، ليكونوا صوتاً يسارياً صادقاً، جاداً، وصارماً.
عادت الديكتاتوريات من شقوق الباب الموارب الذي اكتفت الانتفاضات بطليه دون تغيير خشبه العفن. تعاظَمَ حضور التيارات التكفيرية إلى حد تأسيس «دولة». التهم الجاهزة لا تزال ذات وطأة ثقيلة: كلّ ما حدث هو تغيير «وهن نفسية الأمة» إلى «وهن نفسية الثورة»، وكل ما عدا ذلك تفاصيل نافلة، ولكن ضمن كل هذه الظروف القاتلة، كان ثمة من يسير ببطء واثق ليكون رقماً مغايراً؛ كانت «جدليّة» منذ أربع سنوات، ولا تزال. أن تكون «صوتاً مضاداً للتيارات السائدة» يعني العناد، قبل أي شيء آخر. مسيرة «جدليّة» تمثّل جوهر العناد. منبر ليس أسيراً لشروط التمويل، أو خاضعاً لتأثير أنظمة مهترئة ومعارضات أكثر اهتراء، أو ميّالاً لتبديل أفكاره بحسب الرياح المهيمنة، يعني أنّ أصحاب هذا المنبر يراهنون على الحصان الخاسر. مالَ المنبر أحياناً إلى وجهة نظر «تفاؤلية» (أو «ساذجة» في أحيان أقل) في مقاربته لملفات الحالة السورية تحديداً، لكنه مع ذلك حافظ على نسبة معقولة من الموضوعية الأكاديمية. وهذه الموضوعية الأكاديمية هي العنصر الأهم الذي كانت تغفل عنه الانتفاضات طوال أربع سنوات.
تكريس هوية يسارية صادقة


مع ذلك، لم يعد كافياً القول إنك ضد الديكتاتورية وضد التيارات التكفيرية لتنال صك البراءة في هذا الزمن الصعب؛ هذا ما يقوله الجميع الآن. المهم هو تبيان معنى المعارضة، وتشريح بنية التيارات التكفيرية، وإعادة تعريف البديهيات، إذ لا يختلف «داعش» عن معظم المعارضات «العلمانية» إلا في بعض القشور فقط. كانت «جدليّة» تحتاج إلى وقفة نقدية تأملية، وهذا ما تنبّه إليه فريق المنبر. ثمة روح جديدة في الموقع؛ أقسام جديدة، أقسام أخرى أُعيد ترتيبها، وأخرى ضُبط التركيز عليها. سنجد أنّ الفريق الذي يتكوّن في معظمه من شريحة الشباب، ومن جنسيات عربية مختلفة، قد أعاد السيطرة على الأمور، ليبتعد المنبر عن رسالته التي كادت تشيخ، دون التخلّي عن نسبة معقولة من أهمية الطرح والملفات الشائكة. لا تستطيع الحصول على الكمّ والنوع معاً، لكن «جدليّة» يمكّنك من الحصول على نسبة جيّدة من العنصرين، بل ضمن روح جديدة لم تتخلّ عن العناد والتمرد، اللذين انطلق بهما الموقع، وإن ابتعد قليلاً عن تكريس السياسة المباشرة. حين نلقي نظرة على «توب 50» من مواضيع الموقع، سنلاحظ أن السياسة قد بدأت بالتراجع لمصلحة المواضيع الأخرى التي كان تناولها «محرّماً» في زمن الانتفاضات الأول: أي الجندر، الاقتصاد، الجنس، المثليّة، الشعر عدا عودة فلسطين إلى الخارطة الثقافية بعد غيابها لسنوات بسبب.. الثورات! بالطبع، «توب 50» أقرب إلى النخبوية، لا يعبّر على نحو دقيق عن توجّهات شريحة الشباب، باعتبارها الأهم ضمن لائحة أهداف الموقع، ولكنه يومئ إلى «نقاط الضعف». حتى بعد أربع سنوات، لم يتطوّر القسم العربي على نحو كافٍ ليصبح أمراً أكبر من مجرّد كونه صدى خافتاً للقسم الإنكليزي الأساسي، عدا مشكلات أخرى في الترجمة وسويّة النصوص الأدبية. كيف لمنبر أكاديمي أن يوسّع شريحة جمهوره؟ لا بد من تخفيف «التجهّم» الأكاديمي، دون التخلّي عن الموضوعية والحيوية والتنوّع. هذه هي المعادلة الصعبة التي يجب على «جدليّة» أن يحقّقها في عامه الخامس. ليس مستحيلاً تكريس هوية يسارية جادّة وصادقة في نهاية المطاف؛ هذا ما استطاع «جدليّة» تحقيقه بنسبة كبيرة خلال أربع سنوات مضطربة.
www.jadaliyya.com