«فلنفترض أنّ هذه المدينة تضم عشرة ملايين روح/ يسكن بعضهم منازل، والآخرون حفراً. مع ذلك، لا مكان لنا، لا مكان. سابقاً كانت لنا بلادٌ، وكنا نراها جميلةً. أنظر إلى «الأطلس»، ستجدها هناك. لا نستطيع الذهاب إلى هناك يا عزيزي. لا نستطيع». بهذا المقطع من قصيدة «حزن لاجئ» (و.هـ. أودين 1939)، يختتم فيلم «لا سبيل إلى العودة الآن، يا صديقي» لكارول منصور.

بعدما قاربت قضيّة النزوح السوري (والفلسطيني) إلى لبنان مع اندلاع الأزمة في سوريا في شريطها «نحنا مو هيك» (الأخبار 14/10/2013)، توجّه المخرجة اللبنانية هذه المرة عدستها إلى التغريبة الفلسطينية التي لا تنتهي. يصوّر الفيلم هجرة الفلسطينيين من سوريا (مخيّم اليرموك، مخيم درعا) باتجاه هجرةٍ جديدة إلى لبنان، فجنيف وباريس.
تقارير تلفزيونية تذكّرك
بتعامل الإخوة والأشقاء
يبدو الأشخاص في الشريط التسجيلي الذي يعرض هذا الأسبوع في «متروبوليس أمبير صوفيل» مجردين من شيءٍ ما. يشدّك استعدادهم لرواية الحكايات، لرسم ما حدث معهم. نحنُ شعبٌ يجيد الحكايات، هكذا كان الكاتب إميل حبيبي يصف الشعب الفلسطيني بأكمله. «كان كل يوم ينزل 10-15 قذيفة على المخيّم، ولو كان أي أحدٍ غيرنا، لترك المخيّم منذ زمن. لكن ضربة «طائرة الميغ» كانت الأمر القاسم الذي كسر كل شيء وأجبر الناس على المغادرة». هذا ما قاله أبو غابي الفنان الفلسطيني والمغنّي ذو الصوت الشجي الآتي من مخيّم اليرموك. «لن تستطيع العودة إلى المخيّم مرة أخرى، هكذا تعرف فجأة». هذه أيضاً رسالةٌ أخرى من المخيّم ذاته، من سامر سلامة المخرج الذي ترك المخيّم إلى باريس اليوم. كيف يمكن احتمال دموع حنين الشهابي؛ الفتاة ذات السنوات العشر بجدائلها الطفولية وهي تتحدث عن رحيل والدها الذي سقط هكذا، بكل هدوءٍ؟ هي ما زالت حتى اللحظة تنتظر سماع صوته كي يريحها ولو قليلاً. شقيقتها الكبرى روان كانت تنتظر امتحانات تقديم «الثانوية العامة» (البكالوريا) كي ترى والدها، محتملةً كل شيء، لكنه رحل، فيما أتت عائلته إلى لبنان. رسالةٌ أخرى تحاصرك بألمها، كيف يمكن ألا يدمع المشاهد/الشريك في الصورة والحدث والألم؟ الشاعر يوسف الطيراني (57 سنة) يؤكد لك: «لا شيء سيعود كما كان، فقدنا خيرة شبابنا، هؤلاء كيف يعودون؟». يتدخل صوت الراوي (سحر مندور بكلماتٍ من كتابتها) ليعيدك إلى الواقع. كاميرا تخترق شارع اليرموك، لتظهر المخيّم المدمّر. الصور هي محور المشهد الآخر: «أنا كبرت وصرت أعرف شو يعني موت»، كلمات لبنى تكسر كل شيء. وناجيةٌ من المخيّم تخبرك بأن لا شيء سيعود كما كان أبداً.
تقريرٌ تلفزيوني من «الجزيرة» يذكرك بتعامل الإخوة والأشقاء مع النازحين الفلسطينيين من المخيّم، تستذكر إخوة النبي يوسف وتصمت. تقريرٌ آخر لـBBC من اليرموك عمّن بقي تحت الحصار في المخيّم، ينتظر في صفوفٍ طويلة حصة غذائية. تعود لتذكر إخوة يوسف؛ وتستمع إلى شهادة موسى علي عرابي (78 عاماً) يخبرك عن أصل النزوح، وكيف كان «سِفْرُ» الخروجٍ من فلسطين أول مرة. لا شيء تغيّر. المجازر هي السبب التي أجبرت الناس على الخروج من المخيّم. تدخل الكاميرا مخيّم برج البراجنة في بيروت. أزقته الضيقة لا تشبه تلك في مخيّم اليرموك، فالأخير أشبه بمدينةٍ مقارنة مع «ضيق» مخيم البرج. لكن حتى الفلسطيني القادم من سوريا مهجراً متألماً نازحاً بلا أي شيء ـ تقريباً ـ يكتشف فجأة أن ما كان، «جنةً» مقارنة بما يعيشه فلسطينيو دول الجوار. تصدمك نسرين الشنّار: «كنت في البداية حزينة على حالنا، بس اجيت على لبنان صرت حزينة على حال الفلسطينية بلبنان!». ويرفع الشاعر يوسف الطيراني الأمر أكثر: «المقارنة بين هنا وسوريا، كالمقارنة بين شوارع شاتيلا وباريس!».
ماذا عن الأمل؟ الكبار لا أمل لديهم، وحدهم الصغار يحلمون. حنين بجدائلها الجميلة، تؤكد أنّها ستعود إلى المخيّم. لبنى شقيقتها تؤكد أنّها ستعود كما كانت جدتها تريد العودة إلى فلسطين. لبنى تريد العودة إلى اليرموك ومنه إلى فلسطين، فهناك «حياتك وبيتك» ولا أحد يستطيع إبعادك عنه. لكن هل ينسى هؤلاء فلسطين؟ هل يصبحون أناساً آخرين حال هجرتهم إلى بلادٍ أخر؟ تتوحد الإجابات فجأة في لحظةٍ ما: كلا؛ نحن فلسطينيون قبل أي شيءٍ وبعده.

«لا سبيل إلى العودة الآن، يا صديقي» لكارول منصور: 20:15 مساء الخميس 23 تشرين الأول (أكتوبر) ــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/204080




بلدهم الأم

هاني عبّاس رسام الكاريكاتور الفلسطيني السوري، الموجود حالياً في جنيف، يؤكد في الشريط أنه ينظر حوله كل يومٍ غير واثق بأنه هناك. هو لم يكن يحلم أبداً بأن يصبح هناك، فهو كان يهزأ بمن يهاجرون ويتركون سوريا، باعتبارها أرضهم الأم التي ولدوا فيها، رغم كونهم «فلسطينيين» لكنهم لم يكونوا يوماً غرباء فيها. «اليرموك فكرة. كيف يمكن نزع فكرةٍ من الناس؟» يؤكد هاني.