عرض كوني بأبعاده، لكنه مترجم في نص وإخراج بليغين ببساطتهما وخفّتهما، رغم سوداويتهما، مع أداء رائع للممثلين الأربعة. «مجرزة» التي تعرض حالياً على خشبة «مونو» من إخراج كارلوس شاهين وبطولة: فادي أبي سمرا، كارول الحاج، رودريغ سليمان وبرناديت حديب (الأخبار 9/10/2014). القصة المقتبسة عن نص الفرنسية ياسمينا ريزا، ترصد ثنائيين يلتقيان بشكل متحضر لحلّ مسألة ولديهما اللذين تشاجرا وتضاربا.
لكن مع مرور الوقت، ستتفلت النقاشات من القيود الاجتماعية التي تفرض اللياقة والدبلوماسية في الحديث، ليتحكّم التوتر بالشخصيات الأربع، فينكشف التزلف وتبدأ الحقيقة والفضائح بالطفو إلى السطح. بمعنى آخر، تخلع الشخصيات الأربع قناعها الاجتماعي وتستعيد إنسانيتها الحقيقية بجمالها وقبحها. تعيدنا مسرحية ريزا إلى نص سارتر الشهير «لا مخرج». هنا أيضاً تصبح تلك الدائرة المغلقة ومن فيها، مرآة تفضح مكنونات الشخصيات الأربع.
بعدما نال موافقة ريزا، أوكل شاهين النصّ إلى الممثلة رندا الأسمر لتعريبه، لا بل لبننته، منتجةً ترجمة بليغة بأمانتها للنص الأساسي وقدرتها على تقديمه باللهجة اللبنانية من دون أن يقع في ابتذال اللهجات العامية.
اختار كارلوس أيضاً تقديم العرض ضمن سينوغرافيا واقعية (نتالي حرب) تقتصر على صالون بجميع مكوناته على الخشبة. أما في أفق المسرح، فهناك فيديو يعرض طائرات، تظهر من نافذة المنزل، وتعبر السماء. عدا ذلك، فجميع تفاصيل السينوغرافيا وموقع الحدث الدرامي حقيقية وواقعية، ليبقى الثقل الأساسي والأكبر في المقاربة الإخراجية قائماً على عنصرين: الممثل والنص.
رهان يفضح بسهولة ــ بسبب غياب المؤثرات ــ قدرة الممثلين على تأدية الشخصيات وحمل حوارات النص، وطبعاً قدرة المخرج على إدارة الممثل، لا في تركيب الشخصية وترجمة النص فعلاً درامياً فقط، بل أيضاً في هندسة الفعل الدرامي على الخشبة عبر عناصر قليلة. مهمة نجح فيها الجميع: المخرج، والممثلون والفريق التقني الذي شارك في إنتاج العرض.
قدمّ الممثلون الأربعة أداءً
تميّز بسلاسة في رسم الشخصيات



قدم الممثلون الأربعة أداءً رائعاً، تميّز بسلاسة مطلقة في رسم شخصيات مشبّعة بالتفاصيل (حركة الجسد والوجه، وطريقة الجلوس والمشي، والتفاعل مع الآخر، والحديث). كما كان متقناً لدى الممثلين ذلك التصعيد المتدرج في مسار المسرحية من نقطة التحضّر المزيف نحو الهستيريا الفاضحة لحقيقة الشخصيات، من دون الوقوع في التمثيل المبالغ أو اللامنطق. والأهم أن لا تفاوت بين الممثلين أو الشخصيات، بل إن تجانس الممثلين الأربعة حافظ على التوازن في ما بينهم، ما خدم تعميق المواقف الدرامية بدلاً من أن يطغى أداء ممثلٍ ما على الفعل الدرامي بحد ذاته.
لكن إذا ما عدنا إلى خيار كارلوس شاهين في تقديم نصّ ياسمينا ريزا اليوم في بيروت ضمن مقاربة شبه كلاسيكية في الرؤية الإخراجية، وباللغة العربية، فلا بدّ من التوقف عند نقطة مهمة جداً: موضوع المسرحية الذي يرتكز على تفاعل أربعة بالغين مع فعل عنيف تعرّض له طفل أحد الثنائي، لا ينحصر بذلك الفعل بحد ذاته، بل يشكّل مثالاً مصغراً عن تفاعلنا مع العنف الحاصل في الكون الذي نعيش فيه. ومن التبسيطي أن نقرأ تلك المسرحية في إطار التفاعل الضيق والمباشر لهذين الثنائيين، وخصوصاً أنّ ريزا اختارت في نصّها أن تشير ضمن الحوارات ولو في جزء بسيط إلى المجازر في دارفور، واختارت لشخصياتها الأربع مهناً وسمات متنوعة تحاول عبرها تقديم عيّنة عن أيّ مجتمع في أي سياق كوني. هكذا تتحول تفاعلات الشخصيات مع الحادثة الضيقة إلى عيّنة عن تفاعلنا اليومي مع ما يحدث حولنا من عنف وإجرام ومجازر. أما خيار شاهين في تقديم ذلك العرض في بيروت، باللغة العربية، وبأمانة للنص الأساسي، من دون أن يحاول أقلمته مع واقعنا، أو إسقاط سياقات اجتماعية وسياسية محليّة عليه، ففيه خيار بالمحافظة على تلك المسافة التي خلقتها ريزا في نصّها، حيث تخاطب مسائل كونيّة (المجازر) من دون أن تتطرق إليها بشكل مباشر، بل عبر تظهيرها في قالب حادث صغير قد يحدث كل يوم في أي عائلة بسيطة. نجح شاهين بأمانته للنص في تفادي الوقوع في المباشرة الواعظة. لكن دارفور بيروت إنما هي سوريا بجميع مدنها المنكوبة، والمجازر الواقعة فيها. إنّها بغداد والموصل، البحرين وصنعاء، طرابلس والقاهرة وتونس... وبيروت. ليست تلك المسرحيّة سوى عيّنة عن تفاعلنا مع مجازرنا.

«مجزرة»: 20:30 من الخميس حتى الأحد ـــ حتى 2 تشرين الثاني (نوفمبر) ـ «مسرح مونو» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/202422