باريس | الحياة تستمر ببكاء مُؤجل في أعمال صلاح صولي (1962). أحذية عسكرية مستعملة وسترات طافية كأشباح من الماضي تقودنا إلى حالة فقدان توازن دائمة. الدخول في تصدّعات الحرب المخفية كان الخيار الأكثر وضوحاً في تجربته التي رافقتها أخيلة المخطوفين ومونولوجات السياسيين وذكريات يرويها مسنّون على شاشات الفيديو في وقت متزامن، كأنهم يقولون بصوت واحد «لم يخدعنا أحد، لم يخذلنا سوانا».

من خلال أبحاث استقصائية وميدانية شتى، يرصد صولي تغيّر إيقاع العيش والعمارة ويحلم بصورة افتراضية لبيروت لو أن الحرب الأهلية لم تحدث. «لو تفتح عمل الشيطان»، تُوقع المشاهد فريسة أسلحة وبورتريهات ومانشيتات صحف وألوان أكواريل مرهفة تذكّر بمنتجات إرفين بلومفيلد وراؤول هوسمان الدادائية. الولع بالتنويع والتهجين يكشف ضجره من رتابة الأكاديميا التي تضغط على الأفراد لتطبع منهم نسخة واحدة من القطط الأليفة. حين يمضي لإنجاز أعماله المفهومية خارج صالات العرض، نتوقع أن تُحيط نوتات موسيقة بأشجار الحدائق العامة وأن تهطل معاطف ماغريت على «دير الفرنسيسكان» في قلب العاصمة الألمانية. موضوعه الأثير قاده إلى مغامرة جديدة هذه المرة، إلى مدينة كومينز وارنتون البلجيكية حيث شهدت منطقة بلوغستريت معارك طاحنة خلال الحرب العالمية الأولى خلفت مئات الآلاف من القتلى بين صفوف الجيش الألماني وقوات التحالف. في مدينة تطاردها أشباح 17 مقبرة، نتساءل كيف يحافظ الفنان على مسافة حيوية بين أعماله وخصوصية المكان، بحيث لا يهيمن أحدهما على الآخر؟ وهو التحدي الذي دعت إليه فعالية art /terre التي استمرت من 15 حتى 28 أيلول (سبتمبر) هذا العام كما يبدو.
إنشاءات Meteorite تقوم
على خامات الطين والحجر البسيط
بين الهاجس الجمالي والبحث البيئي، أخذت المشاركين الـ 12 في نزهة إلى «الأرض اليباب». وبدل أطواق النجاة وبوصلة تقود إلى جهة الطمأنينة، لم تُمكّنهم سوى من خامات بدائية بسيطة لإنجاز أعمالهم الفنية في ظرف أسبوع. سرعان ما ارتفع بيت شبيه بكاتدرائية صغيرة فوق الطوب والركام، أطلّ من مدخنته رأس شجرة كبارقة أمل كأنها تأخذ نفساً عميقاً، وهو اقتراح قدمه ثنائي arno arts . في مواجهة نصب تذكاري نُقشت على أحجاره أسماء جنود الكومنولث القتلى، علّقت الفنانة البلجيكية آن موريتو فساتين نسائية مزركشة راقصت الريح على حبال الغسيل، أخرجت النساء من موضع الضعف إلى حيث صرن فاعلات، ممرضات، عاملات في المصانع، حارسات الأرض في أزمنة الحروب. واستحضرت نصاً يروي كيف كنّ يتمددن على السكك الحديدية ليوقفن تقدّم مقطورات العسكر. ثمة من اختار أن يرصف جدراناً جديدة متهالكة ليقول «ما نشيّده يهرع إلى مسرى الذاكرة المتشعّب» لكن صلاح صولي لم يسع إلى المعنى فحسب، بل حاول الوصول إلى مرحلة متقدمة من الحرفية والدقة في العمل. وقلما نعثر على نزعة ارتجالية أو انفعالية لديه، كأن القسوة مطلب فني، الحدة، سرعة الالتفاف على دلالات المكان لخلق علاقة عضوية بينه وبين العمل. إنشاءات Meteorite تقوم على الطين والحجر، هذه الخامات البسيطة واليومية تأخذ هنا دوراً جوهرياً كوسيط بصري وتقني قادر على إظهار التنوع والغنى الشكلي والإيقاعي للتكوينات الهندسية التي تبدو هجينة، لكنها في وئام تام مع الطبيعة. تمدح قوتها الهائلة «بعيداً عن الحضارة المدمّرة وهوس الإنسان» وتضيء ثنائيات جدلية: الكتلة والفراغ، المرئي والمتخيّل، المادي والروحاني. يذكّرنا هذا المُقترح بعمارة الطوب الطينية في حضرموت وصنعاء، وبالجمال العذب لبيوت سوريا الشمالية ذات القباب الطينية وبـ«مهندس الفقراء» حسن فتحي الذي استلهم العمارة الريفية النوبية لبناء قرية القرنة بالطوب اللبن.
كي لا تخيم الحرب بوجهها الحائر وعينيها المسمولتين، نهرع إلى صور المدينة لنطمئن إلى عودة طيور تركوازية ممتزجة بضحك ورفاه وحيوات لينة. يخطفنا تموّج الأقواس، اللمعان، سحر كل الوجوه، وتجفل قلوبنا حين نحدّق في ظلمة بلداننا، نحاول أن نرى متى نخرج من تحت الأنقاض. وغداً لناظره بعيد.