ليست «تاهت ولقيناها» مجرد عرض «سيركوي فهلوي حتحبوه قوي قوي قوي» كما ورد في الدعوة. ما رأيناه في العرض الذي اختتم أمس في «دوار الشمس» هو فهلوية جهود حثيثة امتدت لسنوات أخذتها على عاتقها «مؤسسة المورد الثقافي».
لدى افتتاحها «مسرح الجنينة» في حديقة الأزهر في القاهرة، نشأ احتكاكٌ مع سكان حي الدرب الأحمر الذين كان يفصل بينهم وبين المسرح سور وأفكار مسبقة كثيرة. كان التعامل الأول مع فكرة الفنون بشكل عام يترجم بالمشهد المتكرر التالي: أطفال الدرب الأحمر يعتلون السور ويرشقون رواد المسرح بما أوتيت يدهم من قوارير فارغة. بعد افتتاح «مسرح الجنينة» بالتعاون مع «مؤسسة الأغا خان»، قرر القائمون على «المورد الثقافي» إنشاء «مدرسة الدرب الأحمر للفنون» (الأخبار 25/9/2014) عام ٢٠١٠ وكانت النتيجة بعد ثلاث سنوات ما يلي: عروض متعددة تجمع بين الموسيقى وفنون السيرك آخرها عرض ميلودرامي سيركوي موسيقي يحول أولئك الأطفال الذين كان بعضهم يرشق ممثلي العروض بالقوارير الى أبطال الخشبة.
اجتذبوا بقعة الضوء واحتلوا قلوب المشاهدين، ليس لأنهم أطفال حي شعبي فقير من أحياء مصر فحسب، بل لأنّ قصة العرض تنقل مسار فتاة تتحوّل صبياً للهروب من القيود الاجتماعية التي تفرض على الفتاة في حي مماثل. المسرحية تحمل في طياتها الكثير من الطبقات التي وجب الإضاءة عليها داخل سياق العرض وخارجه. «تاهت ولقيناها» (اخراج حنان الحاج علي) يتخطى «الحدوتة» التي يرويها للمشاهد: «الحدوتة» تروي قصة شباب وصبايا يبحثون عن سارة التي هربت من عنف والدتها وذهبت الى الميدان. ليست تلك الحدوتة مجرد تركيب أو صنع خيال. هي تجسد واقع معظم ممثلي وموسيقيي «تاهت ولقيناها». تلك القصص التي قد يضحك لها المشاهد هي وليدة يوميات قاسية وعنيفة لكل ممثل أو موسيقي في العرض أكان عايشها شخصياً أو جاورها. في كل لحظة، يعيد الممثل عرض تلك المشاهد بشكل فكاهي، كأنه يقهر بذلك كل لحظة قهر تعرّض لها كطفل. اذاً، تتحول مادة القهر لحظات من القوة باعثة على الفرجة والفرح من خلال اعتماد فنون السيرك وتقنيات المسرح الجوي Aerial Theatre. لكل ذلك أثر اجتماعي ايجابي على «أهل» هذا العرض، أي الأطفال الممثلين الذين تمكنوا من التعبير والتنفيس عن ذواتهم، لكنّه يطاول أيضاً البيئة المحيطة في «مدرسة الدرب الأحمر»: أهالي أولئك الأطفال وسائر سكان الدرب الأحمر باتوا أكثر تآلفاً مع المسرح والفنون وقضايا وقصص حيهم الذي تحدث عنه العرض بشكل صريح ومباشر.
ارتكزت السينوغرافيا إلى لوحات تجسد رسوم غرافيتي لعمار أبو بكر

المدرسة التي بدأت بـ 12 متدرباً تقوم الآن بتدريب ١٢٠ طفلاً من الدرب الأحمر أي ١٢٠ موسيقياً وممثلاً. كذلك، أسهمت البيئة الشعبية التي أتى منها العرض، في تقديم مشهدية مختلفة كثيرة الحركة والدينامية مرفقة بأنماط موسيقية متنوعة تؤجج جمالية الشارع المصري بنص عفوي عابق بالأحداث الكاريكاتورية (حنان الحاج علي، بسمة الحسيني).
منذ لحظته الأولى، لم يخل العرض من مضامين سياسية: تم ربط السياقات الخاصة لجزء كبير من الشخصيات بأحداث «ثورة يناير». لم تكن السينوغرافيا التي اعتمدت لوحات تجسد رسوم غرافيتي لعمار أبو بكر مجرد صدفة. لم يكن الميدان الذي تبحث عنه سارة الطفلة مجرد حدث صغير في النص. أولئك الأطفال الذين تراوح أعمارهم بين ٨ و ١٨ الذين سلبوا طفولتهم، وجدوا في صورة الثورة هذا الحلم الذي سيعيد لهم طفولتهم المسلوبة. كأن سارة التي يبحثون عنها وهي تبحث عن الميدان، هي الثورة التي حلم بها كل مصري. هنا لا تعود حكايا الأطفال مجرد حكايا صغار: أطفال يرسمون وعياً جماعياً بأصواتهم الطفولية، يشكلون مشاهد قاسية فتلين لليونة أجسادهم ومرونتها. حين يلمّح الأطفال لقناص العيون ولأحداث شارع محمد محمود، حين يتحدثون عن السلطة وزوال الدكتاتورية، حين يمثلون مشهداً عن سجن لشاب بشكل تعسفي واتهامه بالتحرش، حين تبحث سارة عن الميدان فيلتف حولها الشباب كما لو أنها تتعرض للتحرش... كل ذلك يمر أمامنا كأننا أمام مشهد زاهٍ رغم الغصة التي توشك أن تأتي، فنتغلب عليها بالضحك والفكاهة. هكذا تخرج السياسة من أفواه الأطفال والمراهقين، لتخف وطأة قسوتها وتصبح كدمية مطاطية ذات ملامح أكثر بروزاً، ونحن الراشدون نشاهد.
تميزت المجموعة المؤلفة من ١٦ شاباً وشابة بحرفية، ولا شك أن حنان الحاج علي أجادت تكوين تفاصيل «تاهت ولقيناها» فأضفت بمساندة بسمة الحسيني تلك الروح التي تميّز بها العرض، بالإضافة إلى وجوه واعدة جداً كفاطمة ابراهيم (١٠ سنوات) التي لعبت دور سارة، وهاشم سيد هاشم والحسيني عفيفي وعمرو محمود محروس. يبقى أن العرض ذكّر في نهايته باسمه «لقيناها وتاهت». هل هي سارة أم الثورة؟ «من النهارده ما فيش سكات».