لا نعرف الكثير عن الشعر الصيني. الهايكو الياباني ذاع صيته أكثر لسهولة حفظه وقِصَر قصائده المضغوطة التي يتم التركيز فيها على استعارة شعرية واحدة. وحين نقرأ ديوان الشاعر الصيني تشيدي ماتشيا «لهيبُ نار وكلمات» الصادر حديثاً بالعربية (دار الساقي ــ ترجمة سيد جودة)، فإن نوعاً من التعارف يسبق هذه القراءة التي تنشغل بالبحث عن انطباعات أولية وعامة قد تسمح لاحقاً بتكوين انطباع متماسك. نتذكر أن بعض الترجمات المتناثرة والقليلة التي صدرت عن الأدب الصيني الحديث، ومن ضمنها الشعر، ظلت على هامش حركة الترجمة إلى لغة الضاد، وعلى هامش اهتمامات القارئ العربي عموماً. ما كنا نعرفه عن هذا الشعر، وهو قليل وغائمٌ، أن أغلب شعرائه يمزجون الكتابة مع الأرض والتاريخ والأساطير الشعبية لقومياتهم المتعددة، وتحضر في هذا المزيج أصوات الطبيعة وتضاريسها، ويصبح الشاعر نفسه جزءاً من صورة وطنية وتراثية خاضعة لتقاليد صارمة، وجزءاً من إنسانية شاملة أيضاً. هذا المذاق الإنساني والقومي هو ما يصلنا أولاً في تجربة تشيدي ماتشيا الذي يُكثر من استخدام مفردات الأرض والوطن، ويخلط ذلك مع تراث قومية «ييي» التي ينتمي إليها.

هويته القومية هي جزء من معجمه وذاكرته وصورته الفردية الذائبة على أي حال في صورة الشعب والقبيلة. نقرأ قصائد الديوان، فنتأكد أكثر أن هذا الشعر هو ترجمات وتأويلات لهذه الهوية، بل سنقرأ قصيدة بعنوان «هوية» مهداة إلى الراحل محمود درويش: «لا عجب إن أخبرني شخصٌ ما أني محظوظٌ في هذا العالم الذي يفقد البعض فيه هويتهم/ لأني ما زلتُ أعرف/ تاريخ قوميتي الذي جاء من الدم/ وما زال بإمكاني غناء أغنيات أجدادي حتى الآن». ومن داخل هذه الفكرة، يعلن حزنه وتضامنه مع درويش الذي فقد وطنه وأرضه. هذا مثالٌ يمكن العثور على ما يشبهه في قصائد عديدة تتحدث عن الأرض والجذور، وعن اللغة والشعب، وعن المشاعر الجماعية، وعن إنسانية الإنسان في عالم متغير ومعقد. كأن هذا الشعر مشغول بالمواد الخام للعيش البشري، وكأن الشاعر أيضاً مقيمٌ في الصلات الإنسانية البدائية والعواطف الأساسية والبسيطة.

يستخدم مفردات
الأرض والوطن، ويخلطها مع تراثه القومي

وهو ما يسمح لنا بالقول إن قوة هذا الشعر لا تزال مقيمة في ذائقة القارئ الصيني. صحيحٌ أننا نقرأ ترجمة لهذا الشعر بالعربية، ونحظى بفرصة التعرف على عوالم جديدة، ولكن «المادة الصينية» لا تزال عابقة بكثافة فيه، كما أن هذه المادة تبدو مكتفية بنفسها وبمناخاتها، ولا تمكن قراءتها كشعر عادي متحرر إلى حد ما من لغته الأصلية. على القارئ أن ينتقل إلى هذه المناخات التي يقول أدونيس في تقديمه للديوان أنها «تتميز بحضور عالمٍ بدئي، عالم طفولة كونية»، حيث يختزن الشعر طاقةً إيجابية تدعو إلى حب الأرض والوطن والتقاليد والطبيعة واللغة
الأم.
بطريقة ما، يذكرنا هذا الشعر بالمواصفات التي كانت مطلوبة في الواقعية الاشتراكية التي سادت في الأدب السوفياتي، ولم يكن الأدب الصيني بعيداً من ذلك. لقد حظي تشيدي ماتشيا بحفاوة نقدية وجوائز عديدة كما تخبرنا سيرته المنشورة في الديوان، ولكن شعره لا يزال مقيماً في تراث أسلافه، ولا يزال أميناً على معايير «الأدب الإيجابي» التي وضعتها الواقعية الاشتراكية.