باريس | «تخيّلتُ نفسي أركض وفي يدي أول رسالة كتبتها لطلب عمل. أركض في البلديات. أركض لتسديد الفواتير. أركض خلف حافلة أقلعت قبل الأوان. أركض خلال أيام الرعب الرمادي يوم الخامس من أكتوبر 1988. أركض كي لا أفوّت حلقة من مسلسل «رأفت الهجان» الذي لطّف قليلاً هزيمتنا أمام إسرائيل. أركض من الجبن والخزي أمام النساء اللواتي لم نعرف أبداً كيف ندافع عنهن ضد المحتل على مدى قرون». في قصة «صديق أثينا»، للكاتب الجزائري كمال داود (1970)، نستمع إلى هذيان عدّاء جزائري أثناء مشاركته في سباق العشرة آلاف متر للألعاب الأولمبية في أثينا. يحفّزه حب بلاده ليسابق الريح وينال الفوز، لكنه يواصل العدو حتى بعد تخطّيه خط النهاية.
كمن يهرب من حلم تحقق وفقد هالته المثيرة، يركض 25 صفحة حتى ينبت له جناحان! وفي قصة «جبريل بالكيروسين»، نتعرف إلى ضابط طيران في الجيش الجزائري استطاع ابتكار طائرة من لا شي تقريباً، سمّاها «الملاك جبريل». يقف في «معرض الجزائر الدولي» معتدّاً بملاكه الذي لا يثير اهتمام أحد. مع الوقت، تتصلّب أطرافه وتتلقفه أفكار مريرة: «الإنسان العربي يبلغ دائماً شهرة أكبر حين يخطف طائرة». والهامس يقول له إن العالم متوقف في الخارج كما تركته آخر نظرة عابرة لجندي فرنسي قبل الترحيل. في مونولوج هذياني آخر، نجد سائق تاكسي يحذّر الركّاب من الجزائر التي ضاعت لتصير فاجعة يومية، غصة مرة في الحلق. يخاطبها مستنجداً «لننظر في وجوه بعضنا بعضاً، ترغبين في النوم! ترغبين في الموت!». لكن كل ما يقوله يجرحه ويختزله لأنّ الجزائر لا ترحم ولا تنصت، فيصبح خشناً وفاحشاً «دافعتُ عنكِ حين كان الجميع يضاجعونك وراء ظهري، أخبروني أن الغرباء جاؤوا لاغتصابك، لكنك كنت الداعرة التي أغرتهم بساقيها الممشوقتين وصدرها المكتنز». ماذا بعد الاستقلال؟ بلاد المليون ونصف المليون شهيد نهشت أرواح أبنائها الممسوسين بأساطير المحاربين الأبطال وتركتهم في منطقة مؤذية، ممزقين بين الثورة المجيدة ومذلة الواقع اليومي.

لم تعد القضية
مسألة احتلال بقدر ما هي إلغاء للملامح ونخر في ذاكرة الناس
ليست الجزائر الممكيجة في نشرة الثامنة، تلك التي يخاطبها داود بدعابات لاذعة، يلمسها، يحتقرها، ينبشها كجثة ويبكيها برقّة مريضة في عاموده «رأينا رأيكم» في جريدة Le Quotidien d›Oran (يومية وهران) الناطقة بالفرنسية. ابن مستغانم يحاصر الحكايات الصغيرة مثل صياّد صبور في مجموعتيه القصصيتين Ô Pharaon وMinotaure 504. لكننا نكتشفه روائياً في «مورسو، تحقيق مضاد» التي رُشحت ضمن القائمتين الطويلتين للأعمال المتنافسة على جائزتي «غونكور» و«رونودو» الأدبيتين الخميس الماضي. ما يجعلنا نرفع القبعة لـ «دار برزخ» الجزائرية التي أخرجت هذا الكتاب إلى الضوء عام 2013، وشريكتها «آكت سود» لاصدارها طبعته الثانية هذا العام. «إنها المرة الأولى التي ينشر فيها كاتب جزائري في الجزائر أولاً ثم يرشّح لأهم جائزتين أدبيتين في فرنسا» يقول الكاتب والناشر سفيان حجاج معتبراً أنّ أهم ما في هذا الترشيح شجاعة داود في فتح جراح الذاكرة الجزائرية الفرنسية بالعودة إلى مناخ رواية ألبير كامو «الغريب»، من زاوية ترسم ملامح شخصية الإنسان العربي الذي غيّبته الرواية.
بدأ كل شيء يوم أحد مشؤوم من صيف 1942. تحت شمس رصاصية، أطلق أحد الفرنسيين خمسة أعيرة نارية أودت بحياة جزائري على الشاطئ بالقرب من العاصمة. عجن كامو من خلفية هذا الحادث شخصية «مورسو» القاتل العبثي الشهير الذي تُرجم اسمه إلى 60 لغة، في حين طال التجاهل والغبن القتيل منذ الاستقلال ولم يتساءل أحد إن كان له لقب أو عنوان أو عائلة تحزن بعده. متأثراً بالعربي الذي لم يُحسب على البشر، يستحضر داود من خلال عمل مُتخيل شخصية هارون شقيق «العربي» ليحكي روايته للجريمة من وجهة نظر جزائرية. مَن لا يذكر مقدمة «الغريب» التي تسحب الدم من العروق «ماتت أمي اليوم. وربما أمس، لا أدري!». يهدمها هارون ببطء «اليوم أمي لا تزال على قيد الحياة» ونبتسم بتشفّ لا رادّ له حين يقطّع الجمل ويضمّنها تشبيهات مُعاندة جديدة. لا عجب أن تباع ثمانية آلاف نسخة في غضون 3 أشهر، فـ «الرواية الجيدة تكتب من قبل أشخاص غير خائفين» كما يقول جورج أورويل. هارون احتمل احتقار أمه وجنونها المسعور بعد الحادثة. لم تشعر بوجوده إلا حين كبر وأصبح قادراً على ارتداء ثياب أخيه الميت. هارون المرعوب الحالم المشكّك المتروك بلا مواساة في بارات وهران، لم يكن ينشد الخلاص حين صرّح بفكرة كان ثقلها يُغرقه «أخي هو الذي تلقى الرصاصات، موسى لا مورسو!». لم تعد القضية مسألة احتلال بقدر ما هي إلغاء للملامح ونخر في ذاكرة الناس. الجرائم لا تسقط بالتقادم، بل تظل عالقة في الوجدان ولا بدّ من استكمال القصص غير المنتهية كي لا تدفعنا يوماً ما إلى حافة الجنون وتصبح حفرة لا قاع لها بحجم العالم. لغة كمال داود برّاقة منعشة، تتعمد إدخالنا إلى اليقين من خلال الهذيان الذي يترافق مع استعراضه لأشياء مفككة، أو فاقدة لأي ترابط وثيق، كأنها تحاذر الوقوع في شكاوى غنائية وتذمرات تحوّلها الكتابة غالباً إلى مرافعات بائسة. مكمن القوة هو السخريةِ، هو الضحك الذي تنتزعه لأنه واخزٌ قد يدفعنا إلى البكاء في أي لحظة. بقدر حرص الكاتب على نضارة لغته الفرنسية، يمدّ الألم مِجسّه وينشر أجنحته المُبلّلة، يطوي محاولات هارون لاستعادة ذاته من هامش الواقع السياسي.




سباق «غونكور»

مع انطلاق الموسم الأدبي في باريس، بدأت المراهنات التي تثير الضحك لفرط جديتها. ثمة من يناشد لجان القراءة أن لا «يأخذوا راحتهم» لأن الدور الكبيرة مثل «غاليمار» و«فلاماريون» و«غراسيه» قلّصت عدد إصداراتها هذا العام وليس بين أيديهم سوى 600 رواية! من المنتظر إعلان القائمة القصيرة لـ «غونكور» يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وعلينا أن ننتظر الخامس من ت2 (نوفمبر) لنعرف هوية الفائز. أياً كانت النتيجة، كمال داود الذي كتب في افتتاحية ««لو كوتيديان دوران» صارخاً «يا للعار يا بوتفليقة!» ردّاً على مهزلة «العهدة الرابعة» لا يبدو خائفاً من تلقي لكمات العسكر فما بالك بكلمات النقّاد!