دمشق | عند نقطة الحدود السورية اللبنانية، سوف يخيَّل إليك أنّ كل السوريين يغادرون البلاد. رتل طويل من الحافلات، حشود بشرية تتكوّم أمام مركز الهجرة والجوازات. وجوه شاحبة ومعفّرة بالألم، تنتظر مصائرها المعلّقة، أمام كوة تأشيرة الخروج. الضابط الذي يتجوّل في القاعة الواسعة، يصرخ بالجموع، كما يتلاءم مع قطيع أغنام. الأرتال المتوازية تتحرك إلى الأمام ببطء.بالطبع، لن يغادرك الخوف من أن تكون مطلوباً، أو ممنوعاً من السفر. لحظات المواجهة من وراء زجاج الكوة، قبل أن يدمغ العسكري وثائقك، ثقيلة كصخرة تجثم فوق صدرك. تتنفس أكبر كمية من الهواء في الخارج، وأنت تدخّن سيجارتك باضطراب. تقول لرفيق الرحلة العائد للتو من الطوفان «ما يحدث هنا هو تدريبات إضافية على تحطيم الكرامة البشرية المهدورة في الأصل». سوف يتكرر المشهد بصيغة مشابهة عند مركز الهجرة والجوازات اللبناني. البطء المتعمّد في إنجاز العمل، ونظرة الازدراء، والضجر، كأن ينصت الدركي إلى نكتة من زميله، أو ينهض عن كرسيه لشأن ما، ثمّ يعود بعد دقائق، ليعبث بصفحة معلوماتك على حاسوبه المثقل بالأسماء، للتأكد بأنك لست شخصاً خطراً. هنا أيضاً ستفحص ما تبقى من كرامتك المهدورة، وهي تذوب تدريجاً مثل قطعة ثلج مهملة في عراء شمس حارقة.

سوف يطوّر دركي آخر اللعبة المسليّة خارج القاعة، بإجراء تدريبات عسكرية مرتجلة بأن يلقي أوامر عبثية للحشود، كما لو أنّ هؤلاء البشر في «مستعمرة العقوبات» لكافكا. نحتاج إلى كافكا على وجه التحديد كي نفحص طبقات هذا الكابوس، وهي تتراكم تدريجاً بين شعبي «سوا ربينا»، ذلك أنّ اللبناني وجد ضالّته في صناعة العنصرية ضد السوري، لتعويض خسائره المحلية، وتغيير وجهتها أو تصديرها إلى شوارع أخرى. وسوف يدفع الفاتورة سوريّو الدرجة الرابعة، كما حدث تماماً في سفينة «تايتانيك»، قبل قرنٍ مضى، حين كُدسوا في الطبقة الأخيرة من السفينة، من دون أن يصلوا إلى قوارب النجاة، فغرقوا جميعاً، وأُهملت أسماؤهم في سجلّات المفقودين.

لن يسأل أحد عن
«سوريي جسر الكولا» وفق عنوان رواية
ياسين رفاعية
اللبناني أو «الخواجة»، كما يسمونه العمال السوريون، لا يجيد أعمال البناء الشاقة، أو قطاف مزارع التفاح، أو العمل بوّاباً لعمارة شاهقة، لكنه في المقابل لا يرغب في وجود هذه الماركة من السوريين، فهم ليسوا أكثر من «بشر للرمي» وفقاً لما يقوله كيفن بيلز في أرشفة أحوال العمالة الوافدة. سوريو الخط العسكري، ولبنانيو الخط العسكري المعاكس خارج هذه المتاهة العنصرية. تتكفّل الشاشات بصناعة شوكولا «الأخوّة» بينهما، وحتى إهداء الجنسية اللبنانية الفاخرة لهؤلاء الوافدين للتخلّص إلى الأبد من «جرثومة إيبولا السورية». حقنة العنصرية إذاً، تخصُّ سوريي اللاهوية، أولئك الذين فقدوا الانتماء إلى مكان ما بين الجغرافيتين المتجاورتين تحت اسم نازح أو لاجئ، أو مشرّد، أو شحّاذ. لذلك حين تعبر شارع الحمرا، لا تلتفت نحو هؤلاء، فأنت لا تشبههم. انتقل إلى الرصيف الآخر، واتخذ كرسياً منزوياً في مقهى ما. اقرأ جريدتك مع القهوة الساخنة، كأنك سائح، لا تقرأ صفحة الحوادث كي لا تلوّث صباحك بأخبار الجرائم ضد بني قومك، اذهب إلى صفحة الأبراج والتسالي وأعمدة الحكمة. في تشريح آخر لما يجري اليوم من ضروب العنصرية المتوحشة حيال السوريين العزل، ستكتشف أن المسألة ليست طارئة. بإمكانك مراجعة الرسالة التي كتبها نزيه أبو عفش قبل سنوات إلى اللبنانيين عشية خروج الجيش السوري من لبنان «مرجومين بصيحات الكراهية»، ومعزوفة «الاستئلال»، وأغنية «برا يا سوريا برا»، ومراجعة حبر السيوف المسلولة في التعبير عن صفاء الدم اللبناني. كما بإمكانك فحص مدوّنات الفايسبوك في زراعة حشيش الثأر، إلى الصور المفزعة لضحايا العبور من المطار وإليه. بالطبع لن نستعيد صورة بيروت الستينيات والأشجار العالية التي ظللت منابر المدينة الكوزموبوليتية، من نزار قباني وغادة السمّان وأدونيس، إلى محمد الماغوط وكمال خير بك وسليم بركات.
لن نستغرب اليوم أن تستبدل بيروت هؤلاء بنجوم «أراب آيدول» كسلعة جديدة تتلاءم مع صورة المدينة البرّاقة التي تبيع كل أصناف البضائع بما فيها العنصرية، وخصوصاً بوجود مواد أولية رخيصة، هي أجساد السوريين، أو «سوريو جسر الكولا» حسب عنوان رواية لياسين رفاعية. في الرواية، يقتل لبنانيان عجوزاً سورياً ينتظر حافلة تقلّه إلى قريته في الشمال السوري، للاستيلاء على أمواله، ثم يلقيان جثته في حاوية القمامة. كان الطاهر بنجلون قد كتب «العنصرية كما شرحتها لابنتي» كنوع من التمرينات للأطفال. وربما علينا أن ننجز اليوم نسختنا العربية ببلاغة أكبر، تليق بوحشية الأشقاء، فليس للسوري إلا المقابر المجهولة، سواء في بلاده التي هجّ منها، أو البلاد التي لجأ إليها، ذلك أنّ «اللعنة السورية» ليست محصورة في لبنان وحدها، بل هي عابرة للقارات والبحار وأحشاء سمك القرش. السوري بمعنى آخر، مهنة فائضة في كل السجلّات العالمية، وليس أمامه إلا أن يستعيد صيحة طارق بن زياد «أين المفرّ؟» بفارق وحيد أن لا أندلس بانتظاره، أينما ذهب. جنّة السوري موته.