أفكّر في حارس «مسرح القباني» الذي فقد بيته في الضواحي، واضطر للنوم في إحدى غرف المسرح، منذ سنتين وأشهر. هل يصعد إلى الخشبة ليلاً بمفرده، ويستعيد أدواراً لعبها الآخرون، أم أنه يخرج عن النص ويبتكر حوارات جديدة لتبرير عزلته القسرية؟ وهل يجلس على كرسي « الملك لير»، أم يستعير شخصيات تشيخوف في وصف الألم البشري، أم يصعد الدرج إلى بوابة المسرح كي يتنفّس هواءً آخر عابراً بمحاذاة صورة أبي خليل القباني؟ الحارس الذي أمضى نحو ثلاثة عقود في هذا المكان يحفظ مقاطع كاملة من المسرحيات التي حطّت على الخشبة طوال هذه المدّة. لكنني أظن أنه خلال بروفاته الليلية المرتجلة قد عبث بالنصوص وخلط الأوراق، فتداخلت أصوات أوفيليا وهاملت والخال فانيا، وانزلقت بين الكراسي الفارغة. ولعله استعاد شيئاً من « قصة موت معلن» لماركيز كي يروي قصة موته الشخصي البطيء. سوف ينظّف الخشبة من خطوات الممثلين، ويرتدي ثيابهم وأكسسواراتهم وصراخهم، وينشئ نصاً مختلفاً في الضوء الشحيح للمسرح بفصحى مرتبكة وحنجرة مجروحة وأصابع متشنّجة، فوق خشبة مهجورة، أو بعروض طارئة لم تعد تستدعي تصفيق الجمهور.


ها هو يحصي أياماً وأشهر وسنوات ولا يزال العرض مستمراً بنجاح ساحق
لا نعلم ماذا يفعل حين ينتهي من أداء «أدواره». هل سيصفق لنفسه، وينصت للصدى، أم يتذكّر بيته المهدّم، ويعيد بناءه، كما لو أنه خشبة مسرح أخرى، ويدعو ضيوفاً وهميين لحضور البروفة «جنرال»؟ أفكّر في حارس «مسرح القباني» الذي يضع أبريق الشاي أمام بوابة المسرح مساءً، وينتظر العابرين، متجاهلاً أن مدخل الشارع الذي يقود إلى المسرح مغلق بكتل ضخمة من الكونكريت. سيحمل إبريق الشاي في ليل القذائف ويدخل إلى عتمة المكان، ويختلط بأشباح شخصيات كانت تملأ فضاء الخشبة بالحب والاحتجاجات والغضب. سوف يلقي التحية على صور الممثلين داخل ملصقات العروض القديمة التي يحتشد بها الممر الطويل إلى الخشبة، ويمضي إلى ارتجالات جديدة مازجاً الأدوار في مونولوج واحد طويل، يختزل مأساته الشخصية. وسيشعر بغبطة مفاجئة، حين يكتشف أن عرضه تجاوز مدة كل العروض التي شهدتها الخشبة، فها هو يحصي أياماً وأشهر وسنوات، ولا يزال العرض مستمراً بنجاح ساحق.