يبدو سؤال «بعد ما بعد الحداثة» هجيناً في الثقافة العربية. بالكاد، تشق الحداثة طريقها إلى المدوّنة الثقافية، فيما تقف نصوص «ما بعد الحداثة» في الظّل، فما بالك بسؤال بعد ما بعد الحداثة؟ في أحسن الأحوال، هناك بعض الأصوات التي انخرطت في إطاحة «السرديات الكبرى» استجابةً لنزعة عولمية في المقام الأول، أكثر منها أرضية صلبة لفضاء جديد ومختلف. في كتابها «أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة»( دار نينوى ـ دمشق)، ترصد أماني أبو رحمة أبرز النظريات في هذا السياق. تميط اللثام عمّا آلت إليه الدراسات النقدية المتعلقة في بعد ما بعد الحداثة، هذه الحقبة التي اقتحمت الفضاء السردي بقوة منذ التسعينيات بعدما فرضت قيمها وسرديتها، لتتجاوز أطروحات «ما بعد الحداثة» التي دشّنها على نحوٍ خاص تيري ايغيلتون وباتريشيا واو وليندا هتشيون، بوصفها اعتناقاً فجّاً للغة، ورصداً لفوضى الوجود المعاصر، والاشتغال في منطقة «ما وراء القص» بقصد فضح زيف الأسطورة التي تروّج لنظم عقائدية تستند إلى الوهم.

وإذا كانت ما بعد الحداثة قد رصدت ظواهر مثل الأصولية والعنف والفاشية الجديدة، فإنّ اهتمامات بعد ما بعد الحداثة وضعت مفاهيم أخرى، أفرزتها الألفية الثالثة بقوة، أو ما أسماه الفيلسوف الألماني بيتر سلوترديك «قواعد الحظيرة البشرية» في ردّه على أطروحة مارتن هايدغر حول «الإنسانية» التي وجد فيها الأخير أنّ قراءة الكتب الجيّدة هي التي تردع الوحشية الداخلية للبشر، وبمعنى آخر، تعميم «نموذج الحكمة». وهذا ما يرفضه سلوترديك بقوله: «إنّ الحكماء تخلوا عنّا في الوقت الحاضر، ولم يعد للإنسانية سوى تلك المحفوظات والمؤرشفين»، مقترحاً: «أنثربولوجيا تقابلية» لا ميتافيزيقية.

دراسة وحيدة
عن أدب جبرا إبراهيم جبرا وإشارة إلى الأدب الالكتروني العربي

ويخلص إلى أنّ الإنسانية ليست متأصلة في جوهر البشر، وتالياً، لن تتم عملية «ترويض الوحشية» تماماً، بل تمّ الاكتفاء بتأسيس «صناعة الرغوة»، إذ يعيش كل فرد في فقاعة محدّدة داخل «رغوة التواصل» في نظام مناعة مكاني، يدحر عملياً أي مساحة «للأشواق النوستاليجية» لمصلحة تحوّلات ثقافية كبرى، أتت عبر التكنولوجيا الجديدة، وتوسيع ثقافة الاستهلاك، وتداخل الفردي والكوني، وبناء على ذلك تحوّل المكان «سردياً» إلى مختبر حيوي لإنتاج الحقائق. لن نقع على نسخة عربية موازية. تغرق الباحثة الفلسطينية في أسئلة وافدة، كأن أبحاث الكتاب مترجمة أكثر منها مساهمة نقدية خاصة بها. هكذا تعرّج على عناوين مثل «اتجاهات علم النفس في ما بعد الحداثة»، و«الهولوكوست وما بعد الحداثة»، و«الميتافيزيقيات الحداثية»، من دون أن تقترب من نماذج عربية كأمثلة تطبيقية، عدا دراسة وحيدة عن أدب جبرا إبراهيم جبرا، وإشارة عجلى إلى الأدب الالكتروني العربي. هناك بالطبع عشرات الروايات العربية التي تمثّل بامتياز موجة ما بعد الحداثة، لكن الباحثة تلجأ إلى نماذج سردية مستوردة، نظراً إلى توفّر مراجعها. هذه الملاحظات لا تنفي أهمية الجهد المبذول هنا، بوصفه حقلاً بكراً في الدراسات النقدية العربية، خصوصاً لجهة المصطلح، وإمكانية البناء عليه، في دراسات لاحقة. وفقاً لما يقوله سلوترديك، فإن نظرية بعد ما بعد الحداثة تطيح الثنائيات لمصلحة «الواقع الهجين». في بابٍ آخر، تتوقّف صاحبة «نهايات ما بعد الحداثة» عند الأدب الالكتروني الذي اقتحم الساحة أخيراً، بوصفه محصلة لاندماج التطور التكنولوجي الهائل مع القدرات البشرية، أو ما بات يعرف بما بعد الإنسان، ذلك أن إنسان الألفية الثالثة هو إنسان محسَّن «سايبورغ». المصطلح الذي أدخلته دونا هاراوي إلى عالم الأدب والثقافة، يشير إلى اتحاد الإنسان بالآلة، وتالياً، فهو كائن هجين مخلوق من تزاوج الكائن البيولوجي والآلية السايبرنيتيكية، ما اقتضى تطوراً أدبياً وفنيّاً موازياً يعكس هذه التغيّرات واسعة النطاق، كما أنه يتسم بجماليات عصر الثقافة التكنولوجية لجهة الحركة والانفتاح والتحوّل، خصوصاً في مجال الفنون التي قفزت خطوات هائلة في المقارنة مع الأدب. تتساءل الباحثة: هل النصوص الالكترونية أدباً، أم أن سهولة النشر الالكتروني ستتسبب في «طوفان من الهراء الذي لا قيمة له»؟ وما هي الاستراتيجيات التي تميّزه عن سواه؟ استناداً إلى قراءات مفكري بعد ما بعد الحداثة، تجيب بأن هذا النمط من الكتابة تتجاذبه أفكار متناقضة، تضعه في خانة «الأدب المائع» تارةً، و«ملحمة ما بعد الألفية» طوراً، بتأثير إيديولوجيا العولمة، وتفاعلات الواقع الافتراضي، ما أدى إلى تفكيك العلاقات الفيزيائية بين الأفراد، وغياب مفهوم القارئ والمؤلف نهائياً، أو أقله تغيّر تماماً، بسبب تعدد مراجع النص وإحالاته. وبحسب خطاب «بعد ما بعد الحداثة»، فإن الأدب الالكتروني، انتقل من الهامش إلى المركز، ومن الضجيج إلى الموسيقى، بوصفه نموذجاً فكرياً جديداً، تلتقي فيه العلوم بالإنسانيات، بعد مجادلات طويلة صبغت الحداثة وما بعدها. والأمر نفسه يمكن تعميمه بخصوص التحولات الفلسفية، والنظرية النسوية، والثقافة الجماهيرية، أو ما يمكن تسميته «تمرير عين العقل وعواطف الجسد على الشكل».