باريس | في مقهى يقع في الدائرة العاشرة في باريس حيث التقتها «الأخبار»، تستعيد المخرجة اللبنانية فترة سفرها إلى عاصمة الأنوار، من دون أوهام أو ادعاءات وبالكثير من الشجاعة. في فيلمها الروائي الثالث «باريسية» (2015 ـــ 120 دقيقة ــ سيناريو عربيد وجولي بير وبيار شولر ـــ الأخبار 17/12/2015)، تنطلق المخرجة من ملامح من سيرتها الذاتية وتصغي لهذا الصوت الداخلي الذي جعلها تشتغل كثيراً على «الذات»، من دون خوف من نظرة الآخر، في عالم عربي تقليدي يتعسّف، ويعاقب من دون «محاكمة».
«كل أفلامي تنطلق من مقاربة السيرة الذاتية. أستعمل تجربتي وعناصر من حياتي، وأنطلق منها إلى الآخر. هناك في الفيلم، أشياء عشتها، وأخرى اخترعتها. أعمل مع سيناريست تضيف هي الأخرى قصصاً تتخيلها وأشياء عاشها آخرون. الأهم هو أن أعكس إحساساً قريباً مني. بعد ذلك، أبني الشخصيات مع الممثلين، الذين أشرح لهم العمل. لكن هناك أيضاً عنصر الارتجال. أحياناً، أعيد كتابة المشهد ليكون أقرب من شخصية الممثل. وحتى في مرحلة المونتاج، هناك كتابة جديدة للنص».
قصة فتاة عربية تحررت من السلطة الذكورية لتكتشف الحياة والشهوة والحسّية

قد تبدو شخصية لينا (منال عيسى) صلفةً برغبتها القوية في الحياة بالنسبة إلى مَن يحملون وجهة نظر ذكورية. وقد يرى آخرون من حراس «معبد الطهرانية» في مجتمع عربي يرفض فكرة أن تملك المرأة جسدها وتستقل بذاتها أنّ القصة فضائحية. لكن المخرجة، لا تكترث لهذه الأصوات التي سبق أن انتقدت فيلمها «بيروت بالليل» (الأخبار 15/12/2011 ــ 23/3/2012 ــ 20/1/2012). ««باريسية» هو قصة عن «سنّ الشباب» على حد تعبير عربيد. كثيرون قد يرون أنفسهم فيه: «مثلاً صديقتي الرومانية التي أتت إلى باريس من رومانيا، أو ابن مارسيليا الذي أتى إلى العاصمة، وجدا في الفيلم أشياء تشبه قصتهما الشخصية» تقول المخرجة.
«باريسية» هو فيلم الدخول إلى سن الراشدين. اقتحام لعالم الكبار، يترك فيه الواحد جلده، وهو يكتشف الآخر، وسطوة البالغين، ورغبتهم، في استغلال البراءة. يظهر الفيلم صورة «الأنثى» العربية، التي تحمل وجهاً آخر. وجه مَن تحررت من السلطة الذكورية لتكتشف الحياة والشهوة والحسّية والواقع المعقد لوضعية المهاجر.
صورة هذه المرأة المتحررة، لم تجد قبولاً لدى الممولين كما تقول دانيال عربيد لـ «الأخبار». «هذا الفيلم صوّرته بأكثر الميزانيات تواضعاً من بين أعمالي، وأقل من فيلمي الأول على الرغم أنني حاصلة على 25 جائزة وتعرض أفلامي في «مهرجان كان». المانحون لم يفهموا لماذا هذه المرأة عصرية، ولماذا لا تعاني أكثر، ولماذا ترغب في حضور حفلات موسيقى فرانك بلاك». أرادوا شخصية تعبر عن الكليشيهات حول المرأة الشرقية».
إذاً، نحن أمام فيلم بميزانية صغيرة، وطموحات كبيرة. في المركز، حكاية شابة بيروتية تصل إلى باريس، وكلها آمال لتصطدم بـ «صخرة الواقع» من دون أن تفزع. وعلى الرغم من كل المشاكل التي تصادفها كمحاولة زوج الخالة استغلالها جنسياً، والمصاعب التي تواجهها مع دائرة الهجرة، فإنّها لا تخشى شيئاً، بل تلتهم تفاحة الحياة إلى آخرها.
تعيش لينا ثلاث قصص حب على مدار سنتين، يقدمها لنا الفيلم في ساعتين تقريباً. تختبر أجساد الرجال وأرواحهم، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ورؤيتهم إلى الحياة. هكذا تتحقق معادلة أخرى، فنرى فرنسا من خلال نظرتها لا العكس. «في الغالب، نرى الأجنبي كما لو في حديقة حيوانات حيث يحاولون إجباره على أن يقدم نفسه. لكن عبر هذا الفيلم، قلبت النظام، كي يقدموا هم أنفسهم لها» كما تقول المخرجة. يتوالى العشاق، والليل الباريسي والجامعة حيث مشاهد المحاضرات... تعيش البطلة التي تلعب دورها الشابة منال عيسى الحياة إلى أقصاها. لا تختبر الحب في حسيته فقط، بل الحب في علاماته الأخرى: الفن الذي نراه في مشاهد مطولة على لسان أساتذة الجامعة (عن القبح والجمال وأشياء أخرى...)، وفي النقاشات مع رفاق الجامعة. نرى خيبات الحب أيضاً التي قد تنتهي بالصداقة إلى سوء فهم عميق، لكنه يفتح الحياة أمامها. إنها ــ كما تؤكد المخرجة ــ «تخرج من المراهقة إلى عالم الراشدين. كل لقاء يسهم في بنائها، وكل شخص يفتح بوابة أمامها».
يعرض الفيلم معارك الشباب اليساري، وبدايات اليمين المتطرف، وأوضاع المهاجرين اللاإنسانية

في فيلم دانيال عربيد، تكون الكاميرا قريبة من الشخصيات. عبر اللقطات المقربة، تركز عليهم، ما يؤدي إلى ضبابية الخلفية. هذا القرب من الشخصيات نراه في المشاهد الخارجية (حيث يصعب تحويل الشارع وفضاءات التصوير كلياً إلى حقبة التسعينيات) لكننا نراه أيضاً في المشاهد الداخلية. مقاربة تقنية لم تكن فقط رهينة إكراهات تمويل الفيلم وفق المخرجة، بل نابعة أيضاً من رهان ورؤية في الإخراج، تستعملها كثيراً في أفلامها.
في فيلم «باريسية»، تحضر بيروت أيضاً. بيروت المتعبة الخارجة قبل ثلاث سنوات من الحرب الأهلية، وفي مركزها صورة الأب المريض. وعلى الرغم من التوتر في علاقات أفراد العائلة وصراعاتهم، إلا أن المخرجة ترى أنّ هناك تواصلاً و«حباً يحدث على الرغم من كل شيء». يوجد الأب في وضعية تنعدم معها «سلطته»، فهو على حافة الموت. تدافع الشابة في زيارتها إلى العائلة عن قراراته. لكننا طيلة الفيلم، لا نرى وجهه. «ليست هناك استعارة في ذلك. ما أظهره، أظهره ولا أخاف ذلك. هنا الأب غائب. إنها تتشبث بهذا الأب لكنها لا يمكنها الدفاع عنه. إنها وحيدة. وهذا ما أردت أن أظهره. أردت أن أعطيه بعض الهشاشة هي هشاشة المرض، وأن تدافع هي عنه». عدم إظهار الوجه، ينبع ــ كما تقول المخرجة ـــ من تجربة شخصية: «استعرت هذه المسألة من قصتي الشخصية. كان والدي مريضاً وعشت إلى جانبه قبل بضع سنوات تجربة الاحتضار لأشهر. كنت أصوره من أجل فيلم قصير، لكنني لم أظهر وجهه. أبي كان جميلاً، وأعتقد أنه أراد أن نحفظ صورته هذه. أعرف أنه بإظهار صورة رجل مريض، فهو ليس وجهه الحقيقي. هذا ينتقص من كرامته».
يجد «باريسية» صدى في التاريخ أيضاً. يظهر معارك الشباب اليساري من أجل العدالة الاجتماعية، وبدايات اليمين المتطرف الفرنسي، وكذلك أوضاع المهاجرين اللاإنسانية التي توصلهم أحياناً إلى قاع لا يمكن النزول إلى أعمق منه، كما تقول إحدى شخصيات الشريط بسخرية. حقبة اختبرتها المخرجة: «حاولت أن أحكي واقع سنوات التسعينات. لم أعمل على تأريخها عبر الملابس والأماكن، بل عبر النقاش الدائر حينها. لقد كان الناس لا يزالون يحلمون بالثورة وكانت أجواء مايو 1968 لا تزال حاضرة. كان اليسار يساراً حقيقياً ولم يغير من مواقفه بعد».
أحد نجاحات الفيلم هو أداء الشابة منال عيسى التي دخلت غمار تجربة سينمائية للمرة الأولى. اللبنانية الفرنسية، التي ترعرعت في باريس، كانت قريبة من هشاشة الشابة التي تكتشف عالم الكبار. من بين 600 شابة، اختارتها عربيد لأداء الدور. في البداية، كانت عربيد تريد أن تؤدي الدور ماريان فغالي بطلة فيلمها الأول «معارك حب» (2004)، لتخلق الاستمرارية بين الفيلمين: «أردت أن أخرج فيلماً شبيهاً بأفلام فرنسوا تروفو. أن أخلق الاستمرارية بين الأفلام» تقول عربيد. لكن التزامات الشابة الجامعية دفعتها إلى البحث عن ممثلة أخرى، وكانت منال عيسى الاختيار المناسب. «منال عيسى كانت شبيهة بشخصية لينا، اكتشفت السينما وباريس عبر الفيلم». لشبهها بشخصية «معارك حبّ»، ورغبتها في أداء الدور، نجحت منال عيسى في التصدي له، كما نجحت بأن تدخل هي الأخرى عالم السينما: بلا خوف.

«باريسية»: بدءاً من الخميس في الصالات اللبنانية