يتساءل كثيرون كيف يستطيع أحد تقديم عملٍ سبق أن قدّمه أكيرا كوروساوا، والسير أورسن ويلز، ورومان بولانسكي؟ هذا التساؤل يزداد عمقاً، إذا ما عرفنا أنّنا نتحدّث عن مسرحية «ماكبيث» التي ألفها وليم شكسبير (1564 ــ1616) بين عام 1599 وعام 1606. يأتي فيلم «ماكبيث» للمخرج الأوسترالي جاستين كورزل في اقتباس جديد للرواية/ المسرحية ذات الأبعاد النفسية المعقدة والمتشابكة. إنّها حكاية الطموح الشديد الذي يودي بصاحبه إلى نهاية معروفة. تدور القصة أصلاً في اسكتلندا إبان «عصر الملوك الأوائل»، حيث الصراعات بين العائلات الإسكتلندية على أشدّه، فضلاً عن هجمات قبائل الفايكنغ الساحلية التي تشكّل خطراً كبيراً على البلاد. يقتل «ماكبيث» (مايكل فاسبندر) الملك «دانكن» الذي كان يزوره للثناء على نجاحاته العسكرية المتتالية. يفعل «ماكبيث» ذلك بتأثيرٍ وتشجيع من زوجته الليدي «ماكبيث» (الفرنسية ماريون كوتيار)، لأنّ «العرافات الثلاث» (أو فتيات القدر الثلاث) قد تنبأن بالأمر. يصبح «ماكبيث» ملكاً على اسكتلندا، لكن القصة لا تنتهي. إنّها البداية فحسب؛ فنبوءة العرّافات تفيد بأنّ «ماكبيث» سيصبح ملكاً، لكن أولاده لن يكونوا كذلك (نظراً إلى أنّ أوّل مشهد في الفيلم/المسرحية يكون في عزاء ولدهما الوحيد). يحارب «ماكبيث» القدر، غير أنّه قدر مباشر/صاخب لا يمكن أحياناً محاربته، فكيف ستكون النهاية؟ هل سينتصر «ماكبيث» على قدره المحتّم، أم أنّ أبطال الأساطير التراجيدية لا يموتون بسهولة؟
إنّها حكاية الطموح الشديد الذي يودي بصاحبه
إلى نهاية معروفة
تأتي قوّة العمل من الأداء «الخارق» للنجم الألماني ــ الإيرلندي مايكل فاسبندر، الذي سبق أنّ قدّم شخصية المناضل في الجيش الجمهوري الإيرلندي «بوبي ساندس»، والذي استشهد بعد الإضراب عن الطعام في السجون الإنكليزية ضمن فيلم «جوع» (للمخرج ستيف مكويين ــ 2008). كذلك عرفه الجمهور العالمي بشكل أوسع مع أدائه لشخصية «ستيليوس» في فيلم «300» (إخراج زاك سنايدر ــ 2007)، ليعود ويتألق مع كوينتن تارانتينو عام 2009 في Inglorious Bastards (أوغاد مجهولون). وبالتأكيد، لا يمكن نسيان أدواره فاسبندر اللافتة، مثل «ماغنيتو» الشرير الرهيب من عالم الكوميكس في «رجال أكس: الصف الأوّل» (2011)، ومدمن الجنس في «خجل» (2011) الذي خوّله للترشّح إلى الـ «غولدن غلوب» والـ «بافتا» عن فئة أفضل ممثل، ليعود إلى الإبداع مع «12 عاماً من العبودية» (2012) وترشيحه الأوّل للأوسكار في تعاونه الثالث مع ستيف مكويين. وهناك أيضاً تجسيده لشخصية ستيف جوبز في فيلم المخرج داني بويل الذي حمل اسم مؤسس شركة «آبل». يأتي أداء فاسبندر مناسباً للدور تماماً، إذ يضع من روحه في كثيرٍ من المشاهد. لا يمكن المشاهد تفريق فاسبندر عن «ماكبيث»، ولا يمكن فصلهما البتة. فلا يشعر المرء بأنّه أمام ممثل يؤدي الدور، بل هو «ماكبيث» فعلياً، فيما كلّ المشاعر التي يمر بها هي حقيقية مئة في المئة. من هنا، كان اختيار الفيلم ليترشّح ضمن جوائز عدّة في مهرجان الـ «بافتا» الإنكليزي لهذا العام، بينها «أفضل فيلم مستقل»، و«أفضل ممثل»، و«أفضل ممثلة»، و«أفضل مخرج». بدورها، برزت في هذا الشريط الفرنسية ماريون كوتيار (40 عاماً)، التي عرفت الشهرة عالمياً من خلال دورها في «الحياة وردة» (2007) الذي أدّت فيه دور المغنية الفرنسية الراحلة إيديث بياف، ونالت عنه تقريباً جميع الجوائز العالمية التي تعطى لأفضل ممثلة في فيلمٍ واحد، ولتكون الأولى (والوحيدة) التي تنال جائزة الأوسكار (لأفضل ممثلة) عن فيلمٍ كانت تأديته باللغة الفرنسية. تؤدي كوتيار دور الليدي «ماكبيث». إنّها القوة المحرّكة خلف زوجها، ونقطة ضعفه. إنّها كل شيء في عالمه، ولاشيء في آنٍ واحد؛ طموحه المطلق ونهايته السريعة. تقدّم ماريون ــ كعادتها ــ أداء مميزاً، ولا تضعف أمام أداء فاسبندر القوي للغاية. بل إنّها حتى تتفوّق عليه في مشاهدٍ كثيرة، ولربّما هذا السبب في أنّ المخرج جاستن كورزل أعطاها مشاهد فردية أمام الكاميرا، موازية للعدد الذي حصل عليه بطل الفيلم نفسه. تقنياً، يستعمل كورزل تقنيات «ملحمية» لتصوير هذه القصة المسرحية، متعاملاً مع «القدر» (المتجسّد في فتيات القدر الثلاث اللواتي يمثلن الماضي والحاضر والمستقبل) ومعطياً إيّاه بعداً «خارقاً» في فيلمٍ قائم بشكلٍ أو بآخر على «وقائع» محدّدة (وإن كان قصةً خيالية). يسهّل أبطال الفيلم العمل على فاسبندر كثيراً، فأداؤهم الكبير يمكّنه من ترك الكاميرا تتحرّك بهدوء، من دون الحاجة إلى الكثير من «الخدع» التي يحتاجها الكثير من المخرجين عادةً لإظهار عملهم بصورٍ أفضل. لكن يمكن القول إنّ عام 2016 سيكون شديد الأهمية بالنسبة إلى المخرج الأوسترالي، خصوصاً مع فيلمه المقبل Assassin’s Creed المقتبس عن اللعبة الإلكترونية الشهيرة. «ماكبيث» هو أحد الأفلام القوية لهذا العام. أعطته غالبية مواقع تقويم الأفلام (مثل Rotten Tomatoes وFilm Review وسواهما) ما يزيد على 70 في المئة لناحية القوة والجمالية، مع العلم بأنّ جماليته قاسية بعض الشيء، وليست لجميع المشاهدين، بل للـ «ذوّاقة» الذين يميلون إلى الأفضل.
*صالات «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)، «سينما سيتي» (01/995195)، «فوكس» (01/285582)