لا شك في أنّ فرقة «الراحل الكبير» هي مجموعة عازفين متمرّسين بدراسات جدية في الموسيقى الشرقية، فخالد صبيح أتم دراساته العليا في الموسيقى باحثاً في الإنشاد الديني، وعماد حشيشو (العود) وعبد قبيسي (بزق) «يتعاطيان» الموسيقى الشرقية بشكلٍ جدي كعضوين في «مجموعة أصيل» مع مصطفى سعيد الذي يعدّ أهم المراجع في الموسيقى التقليدية كما يشير قبيسي.
من جهةٍ أخرى، لا يبدو لنا أنّ الفرقة تطرح نفسها كمجددة للموسيقى الشرقية ولا محافظة عليها. يقدِّم «الآسفون» كاريكاتوراً سمعياً للطرب المصري الذي يصل بقوة مخزونه وقدرة نعيم الأسمر (غناء منفرد) إلى ارتجال لحني لتعريف فكاهي بأعضاء الفرقة. يشدّد صبيح على أنّ فكرة المجموعة بدأت ببسط ما لدى الموسيقيين من أفكار أدائية، حتى أنهم يبسطون الأداء الموسيقي ليعرّوه من مظاهر الإبهار «ليس لدينا رسالة فنية بأي شكلٍ من الأشكال». من جهةٍ أخرى لا نرى مساومة في تقنيات الأداء والارتجال الغنائي الذي نشعر بأنه الأقوى بما أنه يحمل الكلمة.

تدمج الفرقة بين التقليدين البيزنطي والمصري

الحوارات الكثيفة نطقية أكثر منها عزفية، والموسيقى للأسف تخدم الكلمة التي ما زالت المسيطرة في ثقافة الشرق، والموسيقي المتمرس يعي ذلك ويجاري تسويق الكلمة لإظهار الجمال اللحني المجرد. بالتحدث عن الجمال في حياكة النص الموسيقي، فقد يبلغ ذروته في أغنية «مليك أخت الجمال» التي شدت الجمهور بمعناها الباطني الفكاهي، لكنها موسيقياً، تعرض حياكة متينة تجمع جملاً متقاطعة من موشح «لما بدا يتثنى» بشكلٍ غير متوقع من حيث تراتبية الفقرات وتقلب الإيقاع، فيبدو لنا بأنها تَذَكُر للأغنية أو نظرة خارجة عن الزمن التراتبي لها.
يداعب «الآسفون» التراث بتمكّن من دون تشويهه بضعفٍ تقنيّ أو جهل بالقوالب قبل كسرها، فيستخدمون البطانة (الغناء الجماعي) في الزن لتقسيمٍ موقع بطريقة تدمج بين التقليدين البيزنطي والمصري، بمساعدة الآلات التي نرى وجهاً عنيفاً لها (كأداء البزق) نسبةً لدورها التقليدي في تاريخ التخت الشرقي.
في «أنا أكتر واحد» (كلمات مصطفى ابراهيم وألحان وغناء نعيم الأسمر)، نرى ابتعاداً ضئيلاً من النفس المصري باتجاهٍ السوداني ربما، فيبدأ بمظهر مقامي خماسي على ما يشبه الـ swing حيث يرسو الغناء. أما في La Bombe التي غناها خالد ونعيم بالفرنسية، متسائلين أين يمكنهما زرع عبوتهما الناسفة، فتبدأ بموسيقى فرنسية تسخر من كليشيهات موسيقى «الفنادق» أو الـ piano bar، لتبالغ بمظاهر الطرب المصري لاحقاً. في ما يخص الإيقاع، نشعر بأنّ الموسيقى تابعة لإيقاعٍ كلامي وليس دورياً، يبلغ حده الأقصى في «قمت طلعت مع الناس» حيث يخضع العازف (علي الحوت) في معظم الأحيان إلى الحركات الإيقاعية للغة وليس إلى دائرة إيقاعية ثابتة.
وبالحديث عن الكلام الذي جذب وسائل الإعلام، لا بد من الإشارة إلى «مولد سيدي البغدادي» التي تتناول الهمجية الداعشية ساخرةً من التناقض بين «رحمة الإسلام» التي تحاكيها الآربيجات على الكيبورد، مذكرةً بأغنيات الطفولة، و«الذبح وتوزيع اللحمة» و«التفجير بخلق الله» مبايعةً البغدادي «الحاكم بأمر الله»، (مع نصب الراء لأسباب موسيقية وفكاهية). كما نرى أخطاء لغوية مقصودة مثل رفع اللام في «كذلك» و«بفضله»، ثم اللدغ في «نحاس عتيق يلبيع». كل هذا يبني جواً خفيفاً يقرب المتلقي من المؤدي ويجعل الموسيقى أخف وأصفى وربما أرقى...