بغداد | لا تقتصر المواجهة الحالية مع «داعش» على الجهد العسكري لدحر هذه الجرثومة التي أصابت الجسد العراقي، بل إنّ حراكاً فنيّاً سلاحه الجمال والألوان الخلّاقة، يتقدّم بقوّة في المشهد الإبداعي. مشهد سارع إلى تصدّره ــ بعفوية ــ أربعة رسّامين عراقيّين لتجسيد ردود الفعل تجاه ما يحصل. كل ذلك في خمس لوحات مختلفة المضامين لكن موحدة الهدف، إدانة «تفاهة الشر والقبح».
ما حصل في مدّة لا تتجاوز الأسبوعين يُعتبر حالة نادرة، خصوصاً أنّ اللوحات نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في أيّام متقاربة.
اللوحة الأولى كانت للفنّان سيروان باران (1968) الذي أقام أكثر من تسعة معارض خاصة ونال جوائز محليّة وعربيّة. عنوان اللوحة «إرحل يا خليفة»، يرسم فيها أبا بكر البغدادي بملامحه الحقيقية التي لن تستطيع لحيته الكثّة إخفاءها. فيظهر بوجه مشوّه وبجسد غير متناسق، في إشارة إلى خروج وجوده عن حركة التاريخ والحضارة. في العمل، يجلس البغدادي على كرسيّ هزاز بهدف ترقّب طرده من الحياة وهزيمة جماعته. اللوحة الثانية كانت لباران أيضاً، إذ رسم مأساة الإيزيديين في جبل سنجار (غرب محافظة الموصل)، وهم مذعورون ومشغولون بالحصول على كسرة خبز أو رشفة ماء، بعدما وصلت الإمدادات المتقطعة إلى مكان وجود النساء والأطفال بمحاذاة جبل يحتمون فيه خشية ملاقاة المصير نفسه: إما التصفية الجسديّة مثل الرجال الأبناء على يد «داعش»، أو سبي النساء وبيعهن في سوق النخاسة.
عمل باران الثاني «هجرة إلى المجهول» أراد توثيق هذه اللحظات المجنونة. الألوان تتشابك مثلما المصائر تائهة عند حافة الهاوية. وبناءً على ذلك، رأى شعراء وكتّاب ضرورة تحويل هذه اللوحة إلى جدارية كبيرة عند مدخل سنجار بعد تحريرها. ونلمس في هذه اللوحة تجسيداً لصورة فوتوغرافيّة نشرها المصوّر الأميركي بيتر تيرنلي على صفحته الفايسبوكية، وعلّق عليها قائلاً: «يمكنني أن أتصوّر جيّداً مثل هذه الأزمة، خصوصاً أنّني عايشت أخرى مماثلة في جبال الجنوب التركي عام 1991، حيث مئات الآلاف من أكراد العراق عبروا الحدود بعد تعرّضهم لقصف نظام صدّام حسين بقنابل الغاز...».
وعن سنجار أيضاً، كانت اللوحة الثالثة التي حملت اسم المدينة العراقية للفنان أحمد نصيف (1967). لكن الأجساد هنا تحاول التماسك بالقرب من بعضها. كما فعل سابقاً، يواصل نصيف الابتعاد عن الألوان الواضحة، كأنّه يريد الاقتراب من الخوف والبشر والأمكنة والذكريات. في السياق نفسه، تأتي «آمرلي... ممنوع الدخول» ضمن المواجهة المسؤولة. هي لوحة لمحمد القاسم (1974)، يوثّق فيها محنة ناحية آمرلي في محافظة صلاح الدين التي يُحاصرها «داعش» منذ شهرين تقريباً. جسّد القاسم على قماش أسود وبواسطة الكولاج، تلاحم الرجال والنساء والأطفال في حمل السلاح دفاعاً عن مدينتهم. سواعد الأهالي توحي باستبسال أناس انقطعت عنهم المؤن والخدمات، لكنهم لم يستسلموا. وما الشريط الأصفر الذي يؤطّر اللوحة بعبارة Danger Do Not Enter (خطر ممنوع الدخول)، إلا تأكيد جمالي لأنّ الإرادة الثابتة لن تُخذل في النهاية.
العمل الخامس والأخير أتى ليكون الأكثر وضوحاً ودلالة على المنطق الأهوج للجماعات الإرهابية. تنتفض لوحة «نكاح» لأستاذ الفنون في كلية الآداب في «جامعة القادسية» محمد عبّاس، على قصص استغلال أجساد النساء في ما يوصف بـ«جهاد النكاح». يُمثّل جسد المرأة بالألوان وليس بالخطوط أو التصوير، بأسلوب تعبيري لمعالجة لحظة راهنة. أما تدفق اللون بغزارة باستخدام الأكريليك على الكرتون، فيجد فيه عبّاس «نزفاً فكريّاً ونفسيّاً، كما أنّه إجهاض لهمّ ذاتي وليد تراكم هموم وسنوات من العجز الذي يمرّ فيه البلد».