وهو من إنتاج إسرائيليّ ــ فرنسيّ مشترك، يقف آلان (جيرار دوبارديو)، خلال عشاءٍ عائليّ في أحد المطاعم الباريسيّة، ليصرخَ بأعلى صوته: "أنا يهوديّ، أنا يهوديّ". قبل لحظة "التنوير" هذه، كان قد أعلن، أمام عائلته، قرارَه، وقرارَ زوجته جيزيل (فاني آردان)، "العودةَ" إلى إسرائيل من أجل اكتشاف هويَّته، بعد أن ضاق ذرعاً بأمّه التي "نشأتْ وربَّتْه على الخجل من أصولهم اليهوديّة".
واقعُ الأمر أنّ "عودة" الزوجيْن هذه إنّما هي تجسيدٌ لرغبة المخرج الفرنسيّ، غراهام غْوِي (Graham Guit)، في "اكتشاف إسرائيل"، وفي "عدم البقاء [مجرّدَ] واحدٍ من يهود الشتات". وخلال الفيلم، تُحدّثنا جيزيل عن الرابط "المستحيلِ التفسير" الذي يَجمعُ يهوديّتَها المكتسبة بـ"أرض إسرائيل"، فإذا هو الرابطُ عينُه الذي جعل المُخرجَ يكتشف ــ خلال التصوير ــ أنّ "لليهود أرضاً هي إسرائيل"، وهو الذي لم يسبقْ أن شعر "بعلاقةٍ جسديّةٍ" تربطُه بأيّ أرضٍ قبل أن يزورَ هذا الكيان. ولعلّه الرابطُ عينُه الذي سهّل تحوُّلَ "آلان" من طبيبٍ في باريس إلى غاسلٍ للسيّاراتٍ في "إسرائيل"، وضمّد آلامَ ختانه (بمقتضى الشريعة اليهوديّة) وهو في عقده السادس، وقَلَبَ تذمّرَ زوجته من فقدان ممتلكاتهما (أثناء شحنها إلى "إسرائيل") إلى محض ابتسامة. فكأنّنا بالمُخرج ودوبارديو وآردان يقولون إنّ كلّ المقتنيات المادّيّة في فرنسا لا تساوي قلامةَ ظفرٍ أمام المكاسب المعنويّة والروحيّة التي تقدِّمها "إسرائيلُ" لليهود "العائدين". وهذا ما عبّر عنه المخرجُ صراحةً بقوله إنّ "إسرائيل تمنحُ اليهوديَّ طريقةً أخرى لأن يكون يهوديّاً، محرَّراً من أحد أشكال عقدة الذنْب. في إسرائيل (...) يتخلَّص [اليهوديّ] من شعور الانتماء إلى أقلية". ولعلّها عقدةُ الذنب عينها التي لاحقتْ الطبيبَ ووالدتَه ومنعتْهما من "أن يعيشا يهوديّتهما"، ومن أن يصارحا نفسيْهما بـ "هويّتهما الحقيقيّة".

Hello Goodbye ليس، إذن، تصويراً عفويّاً لأزمةِ زوجين فرنسيين بلغا منتصفَ العمر، كما زعم البعض؛ كما أنّ اختيارَ "إسرائيل" وجهةً لحياتهما الجديدة ليس خياراً بريئاً. بل لا نبالغ في القول إنّ هذا الفيلم الإسرائيليّ ــ الفرنسيّ الإنتاج يشبه، إلى حدٍّ كبير، الأدواتِ الصهيونيّةَ التي تروّج لفكرة العودة إلى إسرائيل (Alyah)، شأنَ قانون العودة (Law of Return) الذي صدر صيفَ العام 1950 وأتاح لكل يهودي في العالم حق "العودة" إلى الكيان الغاصب والعيشِ فيه والحصولِ على جنسيّة إسرائيليّة؛ أو شأنَ برنامج "حقّ الولادة" (Birthright Israel) الذي يموّل رحلاتٍ للشباب اليهودي من أجل "اكتشاف" معانٍ جديدةٍ لهويّتهم اليهوديّة. فبعد ثلاثة أشهرٍ من العمل والبحث أمضاها المخرجُ وشريكُه في كتابة السيناريو (ميخائيل لولوش) في الكيان الصهيونيّ، وبعد مقابلات كثيرة أجرياها مع عائلات يهوديّة هاجرت إلى فلسطين المحتلّة، تمنّى المُخرج على المشاهدين ألّا يُغفلوا "قصة الحبّ" في الفيلم، ولا الرسالة من وراء وقوع جيزيل في غرام حاخامٍ إسرائيلي يدعوها إلى إعطاء حبيبها الأول (آلان) "فرصةً ثانيةً" لاستعادة حبّهما. ذلك لأن المُخرج، في نهاية المطاف، لا يطالب المشاهدين، ويهودَ فرنسا بالتحديد، بأكثر مما يطالب به نفسه، أي العودة إلى الذات والأصول الأولى، على ما نَفهم من قوله إنّه "يظن...أنّه سيقضي أيام عمره [الأخيرة] في إسرائيل".

أما بالنسبة إلى دوبارديو، فلا تبدو تجربةُ الفيلم أقل تأثيراً في نفسه من غراهام غْوِي. يقول في مقابلةٍ أجرتها معه "جيروزالم بوست" إنه، بعد أسابيع من انتهاء تصوير الفيلم، لم يستطع أن يصمد أمام سحر تل أبيب، التي غدَت « غالية على قلبه". وهو لم يقوَ على إخفاء حماسه أمام الصحيفة الإسرائيليّة حين رأى مركزاً لدمج المهاجرين إلى "إسرائيل"، فصاح: "إنه لمكان رائع. وإنّني لسعيد برؤية المهاجرين الجدد من إثيوبيا؛ إنهم الجزءُ الأهمُّ في الفيلم ».

يثير آلان وجيزيل تشوّقَنا طوال الفيلم لنعرف إنْ كانت هجرتُهما إلى "أرض الميعاد" ستكون بمثابة "مرحباً" (Hello) أو "وداعاً" (Goodbye). غير أنّ مشهدين في نهاية الفيلم، الأوّل يُظهر علمَ "إسرائيل" في المطار، والثاني يظهر عبارة "أهلا بكم في إسرائيل"، يشيران إلى حالةٍ من الترحيب المتبادل بين الزوجين الفرنسيّين من جهة، ودولةِ إسرائيل من جهة ثانية. على أنّ المُشاهدَ النبيهَ لن يَغفلَ عن ملاحظة "عاملٍ" تمّ تغييبُه بشكلٍ متعمّد: إنّه الشعبُ الفلسطينيّ، صاحب الأرض التي يزعم الزوجان الفرنسيّان (ومن ورائهما المخرج وكاتب السيناريو) "العودةَ" إليها. هذه الأرض تبدو، في هذا الفيلم الصهيوني بامتياز، أرضاً بلا شعب، تنتظر "شعباً تائهاً" يريد اكتشاف هويّته الأصليّة في خضم المصاعب البيروقراطيّة الإسرائيليّة وتسهيلات الحياة الباريسيّة الرائقة.

وما دمنا في سرديّة "الاكتشاف" التنويريّة و"الفرص الثانية"، فإنّنا في حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان نتمنّى على دوبارديو وآردان، اللذيْن يزوران لبنانَ نهاية هذا الشهر من أجل تقديم مسرحية لمارغوريت دوراس
، أن "يكتشفا" في لبنان وجودَ حوالى 280 ألف فلسطيني، يعيش أكثر من نصفهم في المخيّمات ويعاني 66.4 في المئة منهم فقرا شديدا
(بحسب تقرير لوكالة الأنروا العام 2010)، بعد أن حرمتهم دولة الاحتلال العنصريّة الصهيونيّة حقّهم في العودة إلى بيوتهم وأرضهم منذ 66 عاماً.

نأمل أن تكون زيارة دوبارديو وآردان "فرصة" أمامهما لمعرفة الحقيقة الفلسطينيّة والأسطورة الإسرائيليّة، وفرصة أمام منظّمي المهرجانات في لبنان لمراجعة تاريخ ضيوفهم قبل دعوتهم إلى لبنان.

حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان