القاهرة | كيف للمذعورين من لفظ الموت أن يتداركوا أنهم أموات؟ وكيف لمن كتبوا القصائد أن يموتوا ويرحلوا؟ أو يتركوا قصائدهم تعيش بدونهم، أو يتركونا نعيش أمواتاً مذعورين من لفظ الموت الذي يقترب؟ كيف للغرباء أن يغتربوا وكيف لنا أن نغترب دونهم؟ من نحن ومن هم؟ من الذي كتب الآخر؟ أهي القصيدة التي تكتبنا أم صوت قرع الرصاص على أبوابنا وجدراننا الآمنة هو ما يكتب القصيدة ويكتبنا؟أبى السرطان الغادر الذي نعيشه ألا ينتهي الشهر من دون أن يفقدنا توازننا، لم يتوانَ السرطان بكل أشكاله لحظة عن التمادي والتوغّل بيننا وبناء مستوطنات فوق أجسادنا الهشّة منها والصلبة.

الثلاثاء 19 أغسطس هو يوم قرع سرطان الاحتلال أبواب غزة مرة أخرى، وقرعت صواريخ المقاومة أبوابه، وظل سميح القاسم واقفاً بكتفه ملاصقاً للأبواب دافعاً إياها في الاتجاه المضاد، تلقى الضربات من الخارج إلى الأبواب ومن الأبواب إلى جسده الذي أرهقه وأعياه طول الانتظار. ولكن في هذا اليوم، كانت الضربات الخائنة أقوى من العضل والشحم والجلد والعظام. كادت الروح العنيدة أن تصمد بداخل الجسد ليس لشيء سوى العناد، ولكن استفزازات السرطان لم تثنها عن التحرر والمغادرة، لم ترجعها عن الانطلاق، لم تقنعها بالبقاء أكثر من ذلك. كأنما كُتب على سميح القاسم أن يواجه العدوان السرطان بكافة أشكاله. فقد واجهه 75 عاماً فوق أرض تُغتصب، منها ثلاثة في جسده متمركزاً في الكبد تحديداً.
المعاناة قصيدة، والقصيدة ترتيلة، والتراتيل لا تموت، وها هي معاناة القاسم تدركنا لتُخلّد نفسها بنفس الرنين العذب لكلماته، كيف نأسى لفقد مرتقب لما نعاين من جسد، وكيف للروح الرشيقة أن ترانا نبتئس؟ هل حملنا عزمنا أم أوهنتنا التجربة؟ نعلم ونعلم أنّ فقدان النظر للمعشوقين مؤلم، لكننا وقت الرثاء قد نبدو للروح عراة من الأسى، لكننا أيضاً لدينا عذرنا. واليوم لن ينعى سميح فؤاده، حيث البكاء حين يغنّى الآخرون، فاليوم قد غادر هواه من الزنازين التي بُنيت له، فاليوم يبكي الآخرون والقاسم شدا.
وابن الزرقا والناصرة وحيفا وكافة المدن اليوم طافت روحه فوق الجميع، تراقب الأهواء والنوازع التي لطالما راقبتها عيونه وتأملتها لتدوّنها في شطرات قصيدته. قصيدته التي لم تعتمد الصراخ يوماً لهجة رسمية ولم ترسم الشعارات بين حروفها لتبيعها بيعاً لمريدي الشعارات الرنانة. اليوم طارت روحه فوق الطائرات الصهيونية وقذائفها، وحلّقت ما بين غزّة وسيناء، أرض التيه التي ضرب بها الصورة في قصيدته «غرباء».
اليوم وقف سميح فوق سماء غزّة في انتظار أرواح بريئة في طريقها للانطلاق كل لحظة، يقف متأنقاً مبتسماً لكل طفل تغادر روحه الجسد ليصطحبه ويصطحبها إلى جنّات أصحاب القلوب الراسخة والوطن والتجربة.
اليوم ينتظر سميح ما فشل فيه المسعفون لينجزه. اليوم لن يدخل القاسم جنّات عدن وحده، اليوم سيصطحب العديد من الصحاب والرفاق في يده يرددون عن ماضٍ لهم:
«وحملنا جرحنا الدامي حملنا
وإلى أفق وراء الغيب يدعونا، رحلنا
شرذماتٍ من يتامى
وطوينا في ضياعٍ قاتمٍ
عاماً فعاما
وبقينا غرباء
وبكينا يوم غنّى الآخرون»