تسكن الأساطير عقول البشر، فيتناولونها ويتبادلونها مستمدين منها قوةً وشجاعةً في أوقات الشدّة، ولكن ماذا لو كانت هذه الأساطير ليست كما تبدو عليه؟ هذا السؤال الأزلي يطرحه فيلم «هرقل» أو «هيركوليس» (بنسخته الحديثة 2014). تبدو الأساطير مليئة بالخوارق، تلغي الحدود بين المعقول والمدهش، لكنّها بحسب الروماني مرثيا إلياد أحد أشهر محللي الأساطير وباحثيها، «قد لا تكون شيئاً خارقاً أبداً، لكن الناس يحبون أن يضيفوا شيئاً من عندهم لكل ما يروونه من أحداث، هكذا يخلق البشر أبطالهم وشياطينهم».
تكاد قصة هرقل النصف إنسان النصف إله واحدةً من أشهر تلك الأساطير، ولا تشذ السينما عن قاعدة استثمار هذه الأسطورة أنى استطاعت (يكفي فقط أن نشير إلى أنّ ستة أفلام تناولت هذه الشخصية هذا العام فقط).
البطل الخارق الجذاب، ذو الجسد المصقول، الآتي دائماً نصرةً للخير باحثاً فقط عن المجد، تجري تعريته في هذا الفيلم بشكلٍ مخيف: إنه ليس بطلاً أصلاً، إنه شخصٌ مرتزق، يعمل لأجل المال، ولا يهمه الخير والشر. يهمه لون الذهب فقط. لا يبحث عن المجد أبداً، هو يذهب فقط حيث يوجد شخصٌ يمكنه أن يدفع له. ماذا عن كونه ابن إله إذاً أو ماذا عن الأساطير التي تنسج حوله؟ الفيلم يقول ببساطة: كلّها تركيباتٌ بشرية.

القصة المبنية
على «كوميكس»
للكاتب البريطاني الراحل ستيف مور

هكذا هي، هكذا تكون. منذ اللحظة الأولى للفيلم، سيتوقع المشاهد أن يرى خوارق للعادة، لكن ذلك لا يحدث، حتى إن بوسترات الفيلم الأصلية وصوره الدعائية حول العالم التي تمجد تلك بطولات هرقل الخارقة، ليست إلا نوعاً من «البروباغندا» التي يحكيها أيولاس (ريس يتشي) ابن شقيق «هرقل» (دواين جونسون) كي يحقق للرجل شهرةً أكبر، وبالتالي يصبح من يريدون خدماته مستعدين للدفع أكثر.
القصة المبنية على «كوميكس» للكاتب البريطاني الراحل ستيف مور (لا يمت بصلة للرسام وكاتب الكوميكس الأشهر آلان مور)، The Thracian War تظهر هرقل مختلفاً عن المعتاد، وإن بقيت حوله مجموعة أصدقائه الاعتيادية: أتولوكيس صديق الطفولة الصلب وقوي الشكيمة، أمفاريوس المقاتل العرّاف، تيديوس المحارب الصامت، أتلانتا رامية السهام الأمازونية، وراوي الحكايات أيولاس الذي تقدمه الكوميكس كابن شقيق هرقل للمرة الأولى. ماذا اذن عن سير الأحداث؟ هل سيأتي هرقل لإنقاذ الفقراء المساكين من ظلم حاكمٍ مستبد أم أنّه سيقوم بإحدى رحلاته الـ12 الشهيرة لتسمح له زوجة أبيه المتسلطة «هيرا» (زوجة الإله زوس المفترض أنه والده) بالحياة؟ كل هذا يضربه الفيلم بعرض الحائط، وإن كان «أيولاس» يستعمله ليغرز الخوف في قلوب أعداء هرقل، والإعجاب والشهرة في عيون محبيه. إنّها لعبة «الضجة والضجيج» المثارة حول البطل كي يصبح «ثميناً» أكثر، وذا قيمةً «تسويقية» أكبر، وهو لا يختلف أبداً عن أي حملةٍ إعلانية تلجأ إليها أي شركةٍ كبرى لبيع منتجٍ تبغي الربح الوفير من ورائه.
تبدأ القصة بشرح قصة هرقل منذ بدايتها، على لسان أيولاس، وهي القصة المخترعة التي باتت أشهر بكثيرٍ من القصة الحقيقية، لتظهر فجأة ابنة ملكٍ تستعين بهرقل كي يعيد الهدوء لبلادها التي يعيث أحد أمراء الحرب فيها فساداً، هرقل الذي يدرك بأنها ستعطيه وزنه ذهباً إذا فعل ذلك، يوافق على عجالة. يذهب إلى تلك البلاد، يدرّب جيشها، ويخدم مليكها، ويحقق له ما أراد. هكذا تنتهي القصة سريعاً، ولا يزال الفيلم في منتصفه، إذاً ماذا بعد؟ ماذا يريد الكاتب ستيف مور أن يقول؟ أليست الشخصية هي لمرتزقٍ يعمل لأجل المال؟ بقية الفيلم هي الشرح المفصّل لِمَ يختلف هذا المرتزق عن غيره، ولِمَ أصبح هو «هرقل» بينما نسي التاريخ كل الأسماء الأخرى. ما يجعل هذا البطل مبتعداً عن سواه من الشخصيات، يقرّبه من الأسطورة، فكل من سيكون في قلب الحدث يومها، لن يرى «مرتزقاً» جاء لأجل المال، بل سيرى حال انتهاء الحكاية شخصاً لا يمس، شخصاً أقرب إلى المتخيل منه إلى المباشر المعتاد.
يؤدي دور هرقل في الفيلم نجم المصارعة دواين جونسون، أحد أشهر الأسماء في عالم المصارعة الحرة والسينما حالياً، ولا يبدو أنّ دواين الذي بات اسمه مرتبطاً بالنجاح سيتراجع قريباً عن تلك المكانة، فالفيلم لا يدور حوله فحسب، بل إنه يعزز شهرته وقابليته التسويقية، فهو أول بطلٍ «أسمر» يؤدي دور البطل الإغريقي الأسطوري. لطالما كان هرقل أشقر ذو عينين زرقاوين، شأنه شأن أغلب أبطال الأساطير حين رسمتها هوليوود. يلعب حجم جونسون الضخم فضلاً عن سلاسة أدائه كممثل (أو كمصارع حتى) سبباً بارزاً في نجاحه، فهو ممثل «أكشن» ويقوم بما يحتاجه الدور منه، لا أكثر ولا أقل. هو ليس آل باتشينو أو روبرت دي نيرو ولن نشاهده بالتأكيد مؤدياً مسرحية «عطيل» أو «ماكبث». لكل دوره ومكانته، والكل ينجح طالما عرف حدود مقدراته. يشارك في بطولة الفيلم روفوس سيول الذي يتذكره المشاهدون من أفلام مهمة مثل «قصة فارس» (2001)، و«المدينة المظلمة» (1998)، و«جمال خطر» (1998)، وجون هارت (لا يمكن لأحد أن ينسى دوره في فيلم «النجاح أفضل انتقام» مثلاً)، وجوزيف فينس في دورٍ صغير نسبياً لأحد أهم النجوم الإنكليز حالياً. اللافت في الفيلم كان الاستعانة بنجمين نرويجيين هما إنغريد بولسو بيردال في دور أتلانتا، وهو الدور الأكبر لها منذ فيلميها «مذكرات تشيرنوبل» (2012)، و«هانسل وغريتل: صائدو السحرة» (2013)، وكذلك الممثل المسرحي أكسيل هيني (دور تيديوس). يخرج الفيلم بريت راتنر أحد أكثر مخرجي أفلام الأكشن شهرةً حالياً، وإن لم تبدُ لمسات الرجل «الإبداعية» واضحةً كما في أفلامه السابقة «الرجال أكس»، و«ساعة الذروة»...



«هرقل»: صالات «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)، «بلانيت» (01/292192)