القاهرة | في روايته الجديدة «البحر خلف الستائر» (دار الآداب ــ بيروت)، يعاين الكاتب المصري عزت القمحاوي (1961) صورةً من صور الاغتراب في المكان، كاشفاً عن مأزق وجودي يعيشه بطله الذي يسمّيه «الطارئ» وليس الوافد. كلمة كاشفة لهشاشة الوجود من أساسه. رغم انخراط السارد في وصف مدينة خليجية من البرج السكني الذي يقطنه، الا أنّ الكاتب يبقيه بلا ملامح في طمس مقصود للهوية لا يمكن اعتباره موقفاً سلبياً من العولمة بل كشف لطابعها السلعي.
يكتب القمحاوي بلغة وصف أقرب إلى القنص. رهانها الرئيس المفارقة وتأطير لحظات بعينها يعبرها وتعبره، يراوغ فيها الرغبة ويروضها برهافة من خلال تجربة التلصص على نساء كثيرات يعبرن أمامه في أماكن مختلفة في البرج الذي يتحول من محلّ للسكن الى مساحة يتضاءل فيها حضور العالم. تحتفي الرواية بمجاز اللا مجاز. عبر مراوغة الغواية، تسعى الى خلق صورة لامرأة لم تأت أبداً، فكل استدعاء لامرأة محتملة هو اعتناء بصورة متخيلة، وليس تورطاً في حضور معين يمكن التعاطي معه. إنّها لعبة النحات التي تجعل من كل نظر في جسد تأكيداً على شعور هش بالوصول الى سره. كتب القمحاوي روايته في ظروف يصفها بالصعبة. يقول: «كنت في بداية سفري إلى الدوحة في نيسان (أبريل) عام 2011، أقيم في فندق، وأعمل نحو 18 ساعة في اليوم لوضع تصوّر التطوير الذي ذهبتُ به إلى مجلة «الدوحة» الثقافية. أعود إلى غرفتي في الثالثة صباحاً، لا أجد النوم، أشعل الأنوار وأكتب نصاً. كان الشكل الأول قصصاً قصيرة، ثم ألحت بعض الشخصيات تطلب العودة، فتحولت إلى رواية في نهاية الأمر.

الرواية مكتوبة بروح القصة القصيرة وبمزاج شعراء قصيدة النثر
ولذلك سعدت بملاحظة د. محمد برادة في مقاله عن الرواية بأنّ السرد يحمل من ملامح القصة والرواية». الرواية هي الخامسة في مسيرة القمحاوي الذي شغل العديد من المواقع الصحافية المهمة. شارك في تأسيس «أخبار الأدب» القاهرية، وشغل موقع مدير تحريرها قبل أن يختلف مع جمال الغيطاني ويغادر الى العاصمة القطرية، مشاركاً في تطوير المجلة الثقافية التي تركها بعد نحو عامين تمكّن خلالهما من تأكيد بصمته المهنية على محتواها.
صاحب «بيت الديب» (2010) التي نالت «جائزة نجيب محفوظ» التي تمنحها «الجامعة الاميركية» في القاهرة قبل عامين، لا يخشى أثر الصحافة السلبي على الكتابة الروائية. يقول: «صرت أستطيع فهم ما يحدث في لاوعيي، فأنا حذر جداً من خطورة الصحافة. وكلما توغلتُ في مياهها بعيداً عن الشاطئ، تُستنفر كل دفاعاتي الأدبية فأكتب». الرواية الجديدة تحمل كثيراً من الملامح التي تميّز العالم الروائي لصاحبها المولع برواية «المكان» كبطل مهيمن على أجواء السارد وعلى نحو يقارب المناخات الأسطورية التي شاعت في روايته الاولى «مدينة اللذة» (1997). ملاحظة يؤكدها الكاتب، مشيراً الى أنّه صار بوسعه تأملها بانفصال كأي قارئ آخر، اذ يكتشف حجم الصمت الذي تنطوي عليه، وما يربطها بروايته الأولى «مدينة اللذة» من سمات أسلوبية، رغم أنّ «مدينة اللذة» تتخذ منحى مثيولوجياً، بينما «البحر خلف الستائر» واقعية، لكنهما تشتركان في الإحساس بالوحشة وكثافة اللغة وافتقاد الحوار وسطوة المكان.
الى جانب حضور «مدينة اللذة»، تشيع في الرواية ما شاع في كتابين آخرين للقمحاوي هما «الأيك في المباهج والأحزان» و«الغواية» من انفتاح على كتابة الحواس التي تضرب فكرة الشكل الأدبي في مقتل بتركيزها على حضور «النص المفتوح». الرواية مكتوبة بروح القصة القصيرة وبمزاج شعراء قصيدة النثر من حيث الاعتناء بتكثيف اللحظة والبناء على مفارقات الحياة اليومية في سرد تراكمي كأنه سعي لمقاومة ارتفاع البرج السكني ذاته وضغطه على روح الطارىء/ السكن.
يفسر القمحاوي هذه التقنية، لافتاً الى أنّه كتب الرواية خلال تجربة العيش في الخليج، وهي الثانية، إذ كانت الأولى في الفترة من 1988 حتى 1992، وفي قطر أيضاً. يشير إلى أنّ «مدن الخليج لا تشبه القاهرة أو بيروت، ليس هناك الكثير من الخيارات لتبديد الوقت، وهذا يناسب الكاتب تماماً. وبحكم المناخ المتطرف، لا يستطيع وافد الحديث عن وجود شارع بمعناه الاجتماعي الذي يصنع مدنية المدينة، بل توجد طرق سريعة والكثير من الصمت والوحشة». يقول القمحاوي «أنا أحب الصمت، فهو شرطي للكتابة، وأما الوحشة فهي مادة الكتابة. وأظن أنّ الروائي هو أكثر المبدعين حظاً، لأنه يستطيع أن يفرز نفسه خارج ظاهرة أو واقعة ما ويتخذ وضع المراقب». أمام قارئها، تبدو الرواية في مجملها قصيدة طويلة تكشف تشظّي البطل بنفس سردي يقاوم نبرة «الرثاء» التي يمكن أن يتورط فيها كاتب آخر. لا يخفي القمحاوي فرحه بتجربة النشر في بيروت بعد تأكيد حضوره ككاتب مع دور مصرية ناجحة. النشر في بيروت وتحديداً في «دار الآداب» العريقة تجربة جديدة، أتاح الروايتين الأخيرتين للقارئ العربي بأفضل مما تفعل الدور المصرية. لكنهما لم تصلا إلى القارئ المصري بالكيفية نفسها. كما يرى أنّ الكتاب اللبناني غالي السعر، و«إن كان اتصال مكتبات القاهرة مع الدور البيروتية في أفضل حالاته في السنوات القليلة الماضية، كذلك فالبعد المكاني بيني وبين دار النشر يصنع إحساساً لا أعرف كيف أصفه. هناك جزء من روحي يحلق بعيداً دون أن يكون لي اتصال مباشر معه. وما حدث مع «بيت الديب» خصوصاً كان غريباً. فقد صدرت الرواية ونشرت أكثر من دراسة عنها من دون أن أعلم، إذ صدرت في أجواء «ثورة 25 يناير» وكنت في تلك الفترة بالميدان، لا أهتم بشيء آخر، ومرت أشهر قبل أن ألمس نسخة منها».