ليس كلامنا عن كمال جنبلاط (1917-1977) كرجل سياسة تعاطى بها على مساحة تفاصيلها الضيقة، بل هو عن هذا الإنسان القلق الذي تفتّقت مداركه وتهذبت مشاعره طفلاً ومراهقاً وشاباً على لغة الوجود كلّه، فاستحالت عنده انبعاثاً من صميم الذات ولم تكن متعلمة أو مكتسبة بقدر ما كانت متلبسة به كزاهد وعرفاني سلك درب الروحانيات، ففرضت عليه نمطاً فكرياً شكّل مذهباً سلوكياً وحياتياً حذراً بين ألغام كثيرة وقعت في طريقه الشاق والغريب.ما يهمنا هنا أثره الأدبي والشعري، فهو بداية لم يقل عن نفسه إنّه شاعرٌ لما لهذه الكلمة من ثقل الانتماء والالتزام، بل عبّر بظرافة الشعراء عن أنّ الشعور نفسه هو الشعر، وقد يكون موجوداً عند كل نفس مهذبة. في كلماته ينساب السكون ويلتقي بروحانية عالية تنبجس من عروج وجودي خَبِر الألم والشقاء وتلمّس الطبيعة بما فيها، ليجترح منها حروف الفرح الذي يطرب الوجود كله كونه جوهره، فأي فرح هذا؟ فرح التعالي وامتلاك الذات في لحظاتها واتحادها في رؤية وبصيرة نافذة تتخطى حواجز الأديان وطرائق الملل والنحل والمذاهب.
ديوان «فرح» في لبوسه الصوفي المتأنس يحيلك على قراءات متجددة. إنه الفرح المتولد من رحم المعاناة ويدفع نحو ديناميكية مسؤولة كي تثبت الإنسان على الطريق، فهو يقول في مكان آخر إن «الدروز هيراقليطيون، فهم يرون أنه ما من فرح إلا وهو مختلط بالغم والعناء، وما من هبوط إلا ووراءه صعود» (من كتابه «هذه وصيتي»).


قدّم لديوانه ميخائيل نعيمه، مندهشاً بشخصيته ذات الأبعاد المتعددة والتواقة إلى المعرفة على الرغم من المآخذ الشكلية على بعض الأبيات المكسورة في أوزانها الشعرية، وعذره ـــ بحسب نعيمه ـــ إصراره على أن يبقى الكسور مكسوراً، وإن كان من السهل جبره لأنه جاءه في هذه الصورة لا في غيرها، فكأنه التنزيل.
مثقف غزير الاطلاع والمعرفة وصاحب تجربة فلسفية وروحية خصبة لا سيما الهندية منها، رافقته منذ شبابه. تأثر بمفكرين كثر أمثال تيلار دو شاردان، وجفاديس شاندرا، وبلوديل وليم جيمس وكارل ماركس، كما تأثر بالكتب المقدسة من القرآن والإنجيل والتوراة، واطلع بشغف على تجارب الصوفية الإسلامية كما الروحية المسيحية. ولا ننسى تأثره بابن عربي في وحدة الوجود ونشدان المطلق النوراني.
يلفت جنبلاط إلى تشابكات المذهب الدرزي مع الفلسفة الهندية ومع الغنوصية التي حاول هذا المذهب الامتزاج بها، ومن ذلك التقمص وما يعنيه والاتحاد ونشوة معرفة ما وراء الحواس. ويكشف عن نظرته وتأثره بذلك وتأثيره في أتباعه للعودة إلى الصفاء الدرزي التوحيدي ذي الخلفية الفلسفية المنسجمة يقول: «لست رئيساً دينياً بالمعنى المتعارف عليه لهذه الكلمة، لكن دراستي للمذهب الدرزي كانت من الكفاية بحيث تتيح لي الشروع في عمل تحليلي. والحق أنني فهمت هذا المذهب على هدى تعاليم الفيدانتا أدفيتا الهندوكية والفلسفة اليونانية اللتين أتاحتا لي اكتشاف مفاتيح الأسرار الدرزية، ذلك أن العرفان الدرزي هو ذات العرفان (الغنوصية) الذي تجده في كل مكان من العالم والذي تجده لدى كبار حكماء الهند وحكماء الأوائل، ثم أن معارفي هذه تعطيني ضرباً من السلطة الروحية لا الدينية. وهكذا فإن المشايخ والطالبين يفدون لرؤيتي، فنصلي معاً ونقوم ببعض التأملات معاً أحياناً، فأقرأ لهم من «أحاجي» الفكر الأدفيتا الهندوكي القديم الذي جرى استخلاصه بطريقة دقيقة عبر العصور. وأفسر لهم الأفكار الأساسية في هذا التيار الروحاني، الإنساني والتاريخي. إنها لقراءة يسمو بها طالبونا. فأنا نفسي تلقيت هذا التعليم في الهند على يد حكيم كبير كان بمثابة سقراط وفيثاغورس بالنسبة إليّ في آن معاً. وعلى أي حال، فإن الدروز يعتقدون أن التجلي الأول، أي تجلي حكمة العلي، قد حدث في مدينة جيم ما تشين (الخيالية؟) في الهند منذ بضعة ملايين من السنين. فإذا كان الغربيون يحسبون بالألف من السنين، فإننا نحسب نحن بالملايين وعشرات الملايين من الأعوام».
ويكشف: «وقد أسهمت أنا في جعل الدروز يعاودون اكتشاف الوحدة الأساسية البسيطة التي تعبّر عن نفسها في كتب الحكمة التي تغيبت عن أبصارهم بعض التغيب عبر العصور.
ولقد اشتغلت نحو اثنتي عشرة سنة لأعرفهم ببعض من كتبهم المفقودة، ولأجعلهم ينسخون- بواسطة نساخ أجاويد- الكتب الأصلية التي عثرنا عليها، ذلك أن للكتاب المخطوط سلطاناً نفسانياً أعظم من الكتاب المطبوع». لسنا هنا في وارد محاكمة التأثيرات الأجنبية على تشكل هوية المذاهب لأن هذه التأثيرات ربما تكون متشابهة عند مذاهب أخرى إنما سنرى ما حملته أناشيد جنبلاط في صوفيته الشعرية حيث الجمالية الفائقة في كتابه «فرح». كأنه تماهى مع طريق السالكين عندما استعار من دير القمر موطن ذهابه وإيابه صورة جميلة:
«دار القمر على بيتي وغاب/ دار القمر واستدار/ في العمامة البيضاء/ وفي تقدمة الخبز، رمز الوحدة الجوهرية/ آه لو كانوا يعرفون، فيما يتعدى الأديان/ وفي رقصة الحق وفرح التكوين/ في بهجة الولادة، وفي بيوت الله/ أي في قلوب المؤمنين».
قدّم لديوانه ميخائيل نعيمه، مندهشاً بشخصيته ذات الأبعاد المتعددة


أما «قوارير النور»، ففيها ألفاظ صوفية عرفانية: «هذا النعيم/ ينسكب عليّ/ من قوارير النور/ في السموات العلى/ -سماوات عقلي-/ وأفلاك المقادير/ ألعب في مراقب الحق/ لعبة الألوهة/ في مشاركة الإبداع/ قبل أن يتجلى/ نوراً وعقلاً ومادة/ ثم ظلمة فكر، ثم هدياً سعيداً/ في مرايا خلقه». ولنتوقف عند «فرح»: «أشم النسيم ولا أرتوي/ كأن النسيم مياه الحياة/ أشم النسيم ولا أرتوي/ كأن النسيم عبير الأزل»، وأخيراً «ربيع توبة القلب»: «طفْ معي، يا أخي، كما تدور الأفلاك/ حول البيت العتيق/ مكة الحق، حجرة الشمس الحقيقية/ التي لا تغرب عن وجود الإنسان/ واسجدْ وإياي في استشراف سورة النور/ عندما يعلو لهب الشعلة في المشكاة».
لم يكن سهلاً عليه هذا الصراع الحاد بين متخيله وواقعه المشحون بالتناقضات، فلجأ إلى الشطحات الصوفية المعينة للهروب إلى نوافد السكون وإلى الإشارات والرموز الكثيفة عبر استعارات غنية تحاكي الكينونة وتبتعد عن ملهاة القشور والسطحية.
إنها لغة ما وراء الحواس بغية انتشال الواقع من تصحر المألوف نحو عوالم روحية خاصة تعيد للذات جدَّتها وأصالتها وتسعفُ النفس من تشظيها وتبلسم ما قد اقترفته يد السياسة الخبيثة.

* كاتب وحوزوي