التحريض المؤسف الذي رافق، في بيروت، إعادة تقديم «لماذا…؟»، قبل أسابيع، لم يكن سوى إشارة رمزيّة، تساعدنا على وضع تجربة عصام محفوظ في إطارها. بعد ٣٥ سنة على تقديم هذه المسرحيّة الخاصة جداً في مساره، برؤيا إخراجيّة تحمل توقيع لينا خوري، أسدت إلينا حفنة من الجهلة والتكفيريين الجدد، خدمة لا تقدّر بثمن. لقد جاء التأويل الأرعن لأحد المشاهد، ليذكّرنا عنوة بالرجل الذي تفتقده بيروت في زمن الانهيارات الكبرى. كلا لم يكن عصام محفوظ أديب صالونات، ولا كاتباً توفيقيّاً يمكن أن نجترّ اليوم عند قبره خطابات المجاملة، ونمثّل طقوس الاحتفال المعقّمة. لقد كان مثقفاً مزعجاً ونقديّاً، ومبدعاً راديكالياً في علاقة صدام دائم مع الخطاب السائد، والحس المحافظ، والفكر الغيبي، والبنى القمعيّة على اختلافها. كان مثقفاً عربيّاً ماركسياً وعلمانياً ويساريّاً، وكل لبنان يتذكّره اليوم. هذا هو رهانه الرابح. هذا مصير الكتّاب الكبار: أن يكونوا ملك أمّتهم. وتكريمه يبدأ برفع القبعة لأحد ألمع أبناء الجيل المؤسس للحداثة بكل أشكالها، لكنّه يقتضي أيضاً أن نستوحي روح السبعينيات المجيدة، بلا حنين زائد، ونستنير بمشروعها الفكري والقومي والسياسي، في أزمنة التكفير والردّات الظلاميّة والمذهبية. ما زال عصام محفوظ مزعجاً إلى الآن. يكفي أن نستعيد مراحل حياته ونتاجه، من الشعر الذي تركه خلفه بصمة قويّة منسيّة، إلى النص المشهدي الذي أسس للمسرح الحديث، وصولاً إلى المرحلة الفكريّة النقديّة التوثيقيّة التأريخيّة التي زار فيها على امتداد ثلاثة عقود ـــ بلغة الحوار المسرحي والمقابلة الصحافيّة والسيناريو السينمائي ـــ بعض أهم رموز الإبداع والتنوير والتمرّد والماديّة في الحضارة العربية-الإسلاميّة. «سعدون»، بطله العبثي والوجودي، ضحيّة القمع على أشكاله (من اجتماعيّة وسياسيّة وفكريّة…)، ما زال بيننا، رفيقنا وشريك لحظتنا المرّة. لقد كان صاحب «الزنزلخت» طوال حياته في مواجهة مع الرجعيّة والاستبداد. وانتهى فقيراً بلا عمل، ولا منبر، لأنّه اختار السباحة عكس التيار، خرج من طائفته إلى الأمّة والعالم، ولم يتملّق سلطة أو زعيماً أو نظاماً. والاحتفاء به الآن، هو استعادة لهذه الخيارات واحيائها. في الذكرى العاشرة لرحيله، تعالوا نراه كما هو. تعالوا نرسم له «صورة شخصيّة»، أسوة بما فعل هو مع جبران خليل جبران في الثمانينيات. تعالوا نبدأ من الاعتذار إلى عصام ـــ ربما حان الوقت لذلك ـــ لأننا تركناه يعيش سنواته الأخيرة وحيداً. منذ ضاقت به جريدته العام 1996 بعد ثلاثين سنة من الانتماء وتوسيع الآفاق، وحتّى انطفائه معزولاً ومشلولاً، العام 2006، فوق فراش المرض.
اليوم نتذكّره بنظارتيه السوداوين، وحديثه المتقطع، وثقافته الواسعة التراثية والمعاصرة، بعبثيته وهشاشته، بوساوسه وأحلامه، بخوفه وتطيره. لتكن مناسبة لإعادة اكتشاف كتبه الخمسين، والترويج لها لدى جيل جديد يكتشف الشارع والتمرّد والوطن، والتحركات المطلبيّة ومفهوم الالتزام، والأدب والحب والحياة. هل تعرفون يا أصدقاء عصام محفوظ؟ عرّاف «الملاحدة» العرب، سليل «رواد النهضة»، خليل «المتمردين» في تراثنا، رفيق بول إيلويار ولوي أراغون وجورج شحادة. تراءى له آرتور رامبو بالأحمر على متاريس عامية باريس. عصام محفوظ مريد «الشيخ الأكبر» ابن عربي، زميل دورنمات وأداموف، وريث مارون النقاش وأبو خليل القباني وأبو نظارة وجورج أبيض وسعيد تقي الدين. عصام محفوظ أحد صنّاع الفرجة ومنظريها أيضاً، كتب مانيفستو الحداثة المسرحيّة في «بيان المسرحي رقم واحد» الذي صاغ مع بيانات يوسف إدريس وروجيه عسّاف وعبد الكريم برشيد والطيب الصديقي وسعدالله ونّوس، ملامح المسرح العربي الحديث. جمع بين مسرح العبث والمسرح السياسي والمسرح التوثيقي، على مائدته كان يلتقي بيكيت وبنتر وتنسي ويليامس وبريخت وبيتر فايس. مسرحه ينبض بـ «لغة الحياة، لغة الحسّ الدرامي»، بعيداً من الحشو والتنميق والايديولوجيا، بين عامية وفصحى مبسّطة. وهذه اللغة طبعت مسار الفن المشهدي الحديث ثم المعاصر في لبنان.
عصام محفوظ معاصرنا. طيفه يخيّم على مقاهي الحمراء التي لم تعد، مسارح بيروت التي لم تعد، الصفحات الثقافيّة التي لم تعد. في مقالة له في «المستقبل» العام 2006، يتذكر الناقد الراحل محمد دكروب صرخة صديقه خلال الاحتلال الإسرائيلي لبيروت (1982)، إذ رفض أن يغادر العمارة التي يقطنها: «لو لم يبق في الحي سواكَ ـــ كتب محفوظ في «النهار» ـــ فإن الوطن سيكون أنت، سيكون على مقاسك، لكم كان يريحك هذا الشعور: أن تكون أنت الوطن». عصام محفوظ الشاهد على تجربة الحداثة. عصام الباحث عن الحرية. عن وطن على مقاسنا. الاحتفاء به في الذكرى العاشرة لرحيله، يكون بمواصلة الاستفزاز والتمرّد، الرفض وتحطيم الأصنام، التجريب والغضب.