لم يكن شغفه الأول في الشعر. هذا الشاب الذي أصدر مجموعته الأولى «أشياء ميتة» (١٩٥٩) أشار مرة إلى أنّه إذا أراد المرء مراجعة ما كُتب في تلك المجموعة، فسيرى أنّ «غالبيتها مشاهد تمثيلية مكتوبة بشكل مونولوغ أو ديالوغ». الشغف الأول لعصام محفوظ (1939 ــ 2006) الذي تحتفي بيروت اليوم بذكرى رحيله العاشرة، كمن له منذ طفولته: البداية الأولى كانت في مسقط رأسه مرجعيون، حيث ولد وترعرع ونشأ مشاهداً صغيراً ومراقباً عن كثب لفرقة عمه المسرحية التي كانت تقدم عروضاً تاريخية شعبية، ما جعله في سن العاشرة يؤلف أول فرقة مسرحية له. لدى انتقاله شاباً إلى بيروت، أصبح الشعر ملاذاً يستعيض به عن حلم الطفولة. لكن ذلك لم يبعده عن الكتابة المسرحية، إذ واظب على التأليف في موازاة الشعر، ولم تكن «الزنزلخت» أولى مسرحياته، إلا أنّها كانت «الأكمل» في تلك الفترة. هذا النص الذي أنهى كتابته عام 1964 مرّ بعثرات كثيرة قبل انتقاله إلى الخشبة عام 1968 لجرأة اللغة والطرح المسرحي. عرض محفوظ العمل على أكثر من مخرج، بدءاً بمنير أبو دبس مؤسس «فرقة المسرح الحديث» الذي شعر بأنّ النص «مغامرة غير مضمونة». بعدها، قدّم محفوظ النص لأنطوان ملتقى، وشكيب خوري وبرج فازليان. في أحد أيام عام 1968، كان عصام محفوظ يقرأ «الزنزلخت» لبرج فازليان وريمون جبارة في كواليس «مسرح بيروت». برج تردد في توليه مهمة الإخراج وريمون اعترته حماسة التمثيل. أراد لعب دور سعدون، لكنه أصرّ على وجود مخرج. محفوظ حسم الأمر. سيستأجر «مسرح بيروت» ويبدأ التمارين الليلية. في مقابلة له في صحيفة «لوجور»، ذكر فازليان أنّه تردد لأنه «لم يفهم المسرحية جيداً، وكان يجب أن تمرّ هذه الفترة الطويلة حتى تتضح له أهميتها». ثم أسرّ إلى محفوظ أنه بعد جولة في المسارح الأوروبية، وجد أن «الزنزلخت» «تقف على قدم المساواة مع أفضل إنتاج مسرحي طليعي في العالم».
منعت الأجهزة الرقابية في لبنان عرض «القتل» بحجة أنه يتعرض للملوك والرؤساء العرب!

العمل الذي يتحدث عن شخصية سعدون الذي يتعرض لمحاكمة من قبل الجنرال والكاتب في موازاة مشاهد تتقاطع مع مجموعة من الشخصيات (العراب، الشحاذ، الأم، الشهود، صورة الفتاة) ويتضح في اللحظة الأخيرة أن كل سياقات العرض تجري في مستشفى للمجانين، قوبل بحفاوة كبيرة. كانت موضوعة الجنون قد تسربت إلى وعي محفوظ لدى تعرفه إلى الحركة السوريالية في أوائل الستينيات، وتحديداً عبر الكتابة المشتركة لكل من أندريه بروتون وبول إيلوار لمجموعة «الحبل بلا دنس»، ما حدا محفوظ لاحقاً إلى كتابة تحقيق حول لغة الجنون في جريدة «الجريدة». أسهم هذا الأمر في بناء فكرة «الزنزلخت»، فيما استلهم محفوظ شخصية سعدون من مريض في «مستشفى دير الصليب» يدعى طانيوس.
تميّز العرض باستحداث اللغة العامية كبديل من اللغة الفصحى، وما سماه اللغة المسرحية أو الموقف المسرحي كبديل من الأدب المسرحي. أمران ركز عليهما محفوظ في بيانه المسرحي رقم واحد. كانت «الزنزلخت» جزءاً من ثلاثية غير مكتملة جمعت 3 نصوص بطلها سعدون: من «الزنزلخت» التي طرحت إشكالية الفرد، المجتمع والسلطة، إلى «الدكتاتور» التي تطرقت إلى ثنائية الفرد ووهم السلطة العادلة في ظل زمن الانقلابات السياسية في المنطقة العربية في الستينيات، و«سعدون ملكاً» الذي آثر محفوظ إعادة صياغته بعد النكسة، لكنه لم يفعل ذلك لإدراكه ضرورة الانتقال إلى نصوص أكثر مباشرة... وهو ما سمّاه «المسرح المسيّس»، منتقلاً إلى «كارت بلانش» و«لماذا».
في الذكرى السنوية الأولى للنكسة، كتب محفوظ المسرحية التي يصنفها السياسية الأولى له بعنوان «القتل». في إطار المسرح التسجيلي أو التوثيقي، نقل العرض بعض تفاصيل النكبة، إلا أن الأجهزة الرقابية في لبنان منعته بحجة أنه يتعرض للملوك والرؤساء العرب. بعد عبث المحاولة، انتقل محفوظ إلى «كارت بلانش» (١٩٧٠) التي أخرجها روجيه عساف ونضال الأشقر، ومثلها أعضاء «محترف بيروت للمسرح» منهم رضى كبريت، ومنير معاصري وجوزيف نانو وسناء جميل. من خلال هذا العرض الذي يجري في سوق عمومية تضم دار بغاء وسلسلة محال صغيرة، يتلمس المشاهد البنية السياسية اللبنانية القائمة على تراصّ سلطة المصارف مع نباهة متنفذ خارجي ودعاة الاستغلال وقليلي الحيلة. على أي حال، أطلق محفوظ على مسرحيته تلك «كارت بلانش - مسرحية النظام في لبنان» التي ما زالت تضع مؤلفها في قلب الراهن اللبناني!

■ ■ ■


* في الذكرى العاشرة على رحيله، يقيم «برنامج أَنيس المَقدسي للآداب» (الجامعة الأَميركية في بيروت) بالتعاون مع «مركز التراث اللبناني» (الجامعة اللبنانية الأميركية) و«مسرح المدينة» في بيروت والدكتور عماد محفوظ لقاءً خاصّاً حول «عصام محفوظ بين لغة الشعر ولغة المسرح» عند السادسة من مساء اليوم في «قاعة بطحيش» (وست هول). تتخلل البرنامج كلمات للشعراء والكتاب والفنانين: هنري زغيب (أَيَّ "غودو" كان ينتظر؟)، عبده وازن (مسيرتُهُ في مجلة "شِعر")، عبيدو باشا (لا... لم يكُن عبثياً)، جهاد الأطرش (قراءات من قصائده)، نضال الأشقر ورفيق علي أحمد (اسكتش "أُمّ عبدالله")، نضال الأشقر (عصام محفوظ كما أتذكّره)