شوقي أبي شقرا*صديقي وزميلي في جريدة «النهار» وفي الذوق السريع الخطى الى الموضوع وفي حاسة النقد والنظرة الفاحصة وفي الهجوم على تبيان القيم وضبط الوجهة والميزان. وكل هذا يكمن في عصام محفوظ، وفي أنه المحافظ على المودة كما على ما يكون جميلاً ويقود الى الجمال، الى ما هو حي في الكتابة وفي الرأي الذي كالمتيم كالصّب يظل يبحث عن الهوى وعن العروق النافرة لتؤلف ما يكون جيداً ويجلب الرضى والأنس. 
وعصام كان طويل الأنفاس وطويل الإقامة على الكتاب الناصع وعلى الصِّلة الغارقة في العمق بيني وبينه. وكان لا يفوته شيء من تاريخنا الأدبي حيث يلتهبُ لكل جديد لكل ما يفارق العادي والمعتاد ويقع في مهب الوفق والوفاق، وفي الحيز الذي نصفق له. 
وأنا كنت الفاتح والرسّام لتلك العلاقة من عصام إلى المسرح وفنونه وطبقاته. وكنا ذات يوم في خميس مجلة «شعر»، وقرأ عصام قصيدته «زليخة»، ولما انتهى علقت على الشاعر والناثر وقلت له: إنه المسرح عندك، وأراك القوي أيضاً في هذا النطاق، في هذه الأفكار المنبطحة والمنسرحة عبر سطر وآخر أو بيت وآخر.
وجرى ما جرى من بعد، واعترف عصام بأنني كنت له ذاك المتحول من لوحة الى لوحة، الى حيث يكون في المهنة النبيلة، وفي الوقوف على الخشبة وقوف الالتزام والدفاع عن المعاني في أقصاها، أي هو يمتلك تلك التجربة في حياته المنفردة والمستحيلة على هذا النحو. 
وعصام في ناحية من شخصه، من سلوكه المعيشي، نموذج بين الشبيبة وفي الوسط الإنساني، لأنه عاش وحيداً وكانت السعادة نوعاً من المطلق ومن الغياب معاً. وهو لا يبالي بالأسود والأبيض فيها، ذلك انه يتحمل الانفصام والحالات الصعبة، وكان ذلك أشبه بالبرهان والحجة على أنه فريد في مجاله الذي يختلف عن السوية وعن الذين يؤوبون على عكسه، الى البيت الحميم والى الحنان الذي كأنه صفة لم يدركها هو ولا عثر عليها في أي رياضة وأي طريق وأي مغامرة. 
وعصام يراني أنني في فذلكة الزمان كنت الذي أنبا الخبر عن أنسي الحاج عبر مقالة لي عن أنسي منذ أمد، على عهد مجلة «الحكمة» الصادرة في بيروت. وقلت في المقالة القديمة قبل المصير الناجح، إن أنسي في سوق الطويلة ذو شخصية حامضة، خاتماً بهذا القول، وصفاً له يسبق ما كان من الأمر، وما سيكون وما يطابق. 
وعصام كان يضحك وكان الضحكة، وكان الناجح في ذلك، وكأنه إذ يبصر أي فن من الفنون، وإذ يبصر شارلي شابلن، ينتفض جناحاه كما يحصل للطيور، وينهض عن الكرسي في صالة السينما، وهو يفقع طرباً من هذه الفكاهة السوداء، ويتمايل يسرة ويمنة، وينثر نفسه في المكان وكأنه الأرجوحة ولكن لا فتاة ولا صغار عليها سواه. 
وفي هذه الذكرى لوفاته، أراه بلا سيارة، إذ كان السائق الضائع في الأثناء وعلى شفا أن يتدهور في أي ثانية من السواقة، لأنه هكذا مثال الوحيدين، ومثال الممثلين الذين لا ينطقون كما في الأفلام الصامتة. 
وكان أيضاً دقيق الموعد معي ويسلم المواد صفحة كاملة له، منطلقاً لها من الحاضر، ومن المناسبات الجارية. 
وكان أخيراً مسرحاً وقضية، ناقداً سليم القريحة، يدخن ويدخن ويلعب لعبة الحظ. وحين يربح مالاً، كمشة منه عارمة، يسحب المبلغ الكثيف أمامي. وأنا في العمل وهو يشرد، ولأنه كذلك يفقد عويناته ويحار أشد الحيرة، وعليه أن يشتري غيرها وأن يتكرر المشهد وأن يدفع الثمن كل حين. 
ولا عصام محفوظ سيكون لنا، للعاصمة بيروت التي طالما راح يذرعها لأنه اختار دربه المثقل بالتحديات من ضئيلة الى كبيرة. ولأنه ابن التربية الكثيرة المشاقّ، ويمكن أن لا تكون ثمّة تربية. ويمكن أن يكون اختار هو أن يكون من هو في حاضرنا المضطرب والذي يمتد سنوات، والذي دفع أديبنا ورفيقنا الى الحوار المضني، والى العبث كما في مسرحه، والى نسق يخرج من الكهف ثم يعود إليه، إلى مناخه المتقلب. وأظنه يضحك في عبه، بل يقهقه وهو يقفز ويرتفع فوق الحجر والصمت ويتخطى ذكراه.

شاعر لبناني