الحرب ماثلة في تصوّرات مختلفة في معرض الفنان السوريّ صلاح حريب (1985) الذي اختُتم قبل أيام في غاليري mission d’art في منطقة مار مخايل (بيروت). معرضه المنفرد الأوّل في بيروت، ضمّ ثلاث عشرة لوحة ذات أحجام متفاوتة ومواد متنوّعة، لكنّها تعكس كلّها وجداناً مثلوماً بالمآسي المتمثّلة في الجسد المشوّه والمتعب، والأرواح المعذّبة، المنعزلة والمسجونة في أزماتها الوجوديّة، كلّه من مفاعيل الحرب وما تخلّفه في الجسد والروح معاً...‏إيماءات وإيحاءات بصريّة قويّة، عنيفة، تتشابك فيها الأجساد (الجسد تيمة طاغية) المهمّشة بفعل عدوانيّة البشر. التشاؤم طاغ اليوم شرقاً وغرباً، و«الحضارة» الحديثة حوّلت الإنسان هيكلاً فارغاً، منزوع الوجود والكرامة. كأنّنا بالفنان حريب ينعى تلك «الحضارة» التي أوصلت الإنسان إلى هذا الدَرْك المنحطّ من فقدان القيمة، فلجأ إلى تفكيك كينونته أجزاءً مشوّهة، بائسة، بلا جسد متماسك وروح صافية، منطلقاً حكماً من تفاعله مع مأساة بلده، فسوريا عاشت طوال عقد ونيّف واحدة من أشرس الحروب وأعنفها وأقساها وأشدّها أثراً وتبعات، على المستويات كافّة، نتيجة الإرهاب المتوحّش الذي لم تر البشرية له مثيلاً منذ هولاكو والقرون الوسطى، وقد طُبع بقطع الرؤوس وتقطيع الأجساد أو حرقها أو إعدامها ميدانياً بالرصاص في الرأس.

بدون عنوان (مواد مختلفة على كانفاس ــ 150 × 200 سنتم)

‏إنّه المنطق الجوهريّ لمعرض حريب: ما حلّ بجسد الإنسان المنتهك والروح المتألّمة. تسرّبت المشاهدات إلى لوحته المنجزة على قماش، وتحيلنا على أعمال لأمثال الفنان الأميركيّ «سيّد تشويه الوجوه والأجساد» فرنسيس بيكون الذي لم يسلم وجهه هو نفسه من التشويه في بورتريه ذاتي استلهمه المخرج ديفيد لينش لتصوير شكل «الرجل الفيل» تحفته بالأسود والأبيض. هنا لدى حريب يترافق الجسد المشوّه، المجزأ والمفكك مع رؤية الفوضى العبثية القاتلة التي يمكن إسقاطها على كلّ زاوية من زوايا بلدان منطقتنا العربيّة، فالوحشيّة والإرهاب طالا كلّ الأوطان المحيطة بوطنه الذي انفرد ربما بارتفاع منسوب تلك الوحشيّة وعانى منها ما يفوق الوصف.
نشهد في لوحات حريب أفواهاً مفتوحة تصرخ الرعب وتجسّد الألم والمعاناة. هنا قد يبدو الفنان مضمّناً لوحاته الأقسى والأسوأ المستقاة من مشاهد القتل والتقطيع المروّعة. نظام العالم الجديد غيّر ملامح الجسد، حطّ من قيمته، تركه عرضةً لأسوأ المصائر، وطبّق من خلاله الرؤى التي أتانا بها أكثر الأدباء والشعراء والفلاسفة والفنانين تشاؤماً وسوداوية. علماً بأنّ السورياليين جاؤونا رسماً وشعراً بمثل هذه الرؤى القاتمة، مثلما جاءنا التكعيبيّ العبقريّ بيكاسو بأفضل تجسيد لهذا المنحى في جداريّته الخالدة «غيرنيكا» المستلهمة من فظائع الحرب الأهلية الإسبانية، غير البعيدة عن فظائع الحرب السورية.
أفواه مفتوحة تصرخ الرعب وتجسّد الألم والمعاناة


‏لا تغيب حتى النعوش عن لوحات صلاح حريب، وعناصر الدمار، معتمداً لها ألواناً صارخة، ومحوّلاً الزخارف الجميلة إلى أشكال مروّعة تهزّ وجدان الناظر إليها. هنا، قد تبدو أعماله مقلقة للبعض، غامضة للبعض الآخر، لكن في الحالتين لا ينظر إليها زائر المعرض المتأمّل في تفاصيلها نظرة لا مبالية أو حياديّة. استطالات مشوّهة تطال حتى الفعل الجنسيّ غير المبهج. أفواه تصرخ من الألم، نعوش منتشرة، وخطوط ترسم أحوال الحزن والغضب، فتتضاعف الانفعالات، وتحضر اللطخات بالحبر بمنحنيات دقيقة، نافرة.
‏تتجاوز لوحات حريب حدود الجرأة والصدم بالخطوط السوداء وتمشيحاتها، على خلفية حمراء بلون الدم القاني الذي سال في الحرب الفظيعة مدراراً، أو ألوان أخرى (كالأصفر والأخضر والأزرق) لتضفي على اللوحة توازناً ما في العمق بتمشيحات عريضة. لا اختلال في التوازن على سطح اللوحة أو عمقها. يلجأ إلى الأكريليك والموادّ المختلفة على نحو يخدم رؤياه المتشظية موتاً وخراباً في الإنسان ومحيطه، مستفيداً من دراسته لفن العمارة أيضاً في صوغ التوازنات الدقيقة. يمضي في منحيين فنّيين، التعبيريّة التي طبعت أعمال فنانين متشائمين يتقدّمهم فان غوغ، والوحشيّة (fauvisme) فتمتلئ مساحة لوحته بالظلال التي تعكس غير المدرك إنّما المحسوس والمرئيّ.
منذ شبابه الأوّل، أظهر صلاح حريب ميلاً جارفاً إلى التعبير الفنّي حين كان يمضي ساعات طويلة في الرسم والقراءة عن الفن. التحق لاحقاً بمحترفات العديد من الفنانين في بلاده طوال عشر سنوات وشارك في ورش عمل فنية. وإن لم يتابع تحصيلاً أكاديميّاً في الفن التشكيليّ، إلّا أنّه التحق باختصاص فنّي قريب، هو دراسة الفنّ المعماريّ وفيه جانب من الإعداد التشكيليّ.