هو ليس شيئاً غريباً عنه. على عادة نصري الصايغ في أن يكون مثقفاً ومفكراً في آنٍ معاً، كان اللقاء الذي أقيم يوم الجمعة الفائت في «قاعة السفير» (الحمرا ــ نزلة السارولا). اللقاء أراده أن يكون كما يشبهه هو: مباشر مع محبيه ومحبي كتبه، فضلاً عن كونه لقاء وزّع خلاله بعضاً من كتبه مجاناً. تلك الكتب («أريد حذاء لروحي»، «محمد: السيرة السياسية»، «الخراب: يوميات شاعر في بيروت»؛ و«دفاعاً عن الخطأ... والخطيئة» ومسرحية «خلص... ما عاد في شي»)؛ سبق أن طبعها، وأصرّ هذه المرّة على توزيعها. لماذا مجاناً؟ أجاب على هذه الفكرة في كلمةٍ قصيرة ألقاها في افتتاح النشاط الذي حضره حشدٌ كبيرٌ من المثقفين والإعلاميين والصحافيين وبعض الساسة. شرح الصايغ كيف أنه في معرض الكتاب السابق، آلمه أنّ أستاذةً جامعية وقفت أمام إحدى دور الكتب سائلةً عن سعر أحد الكتب. فاجأها السعر، فلم تشتر الكتاب، لأنها لم تستطع. يشير الصايغ إلى أن ذلك آلمه كثيراً: «أنا أدعو دور الكتب والكُتاب والمثقفين أن يخصصوا جزءاً من كتبهم لمن يريدها، ولا يستطيع؛ للمكتبات العامة وغيرها». أشار بعد ذلك إلى علاقته بالقراءة والخوف والوجل والحروب، مضيفاً أنه بعد كتابه «الخراب»، سأله الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين: «هل دخلت إلى مصح للأمراض النفسية قبل أن تكتب هذا الكتاب؟» ليجيبه الصايغ على طلاقته: «لو لم أكتب هذا الكتاب، لكنتُ دخلتُ المصح». هكذا هي الكتابة، جزءٌ لا يتجزأ من عملية الشفاء الذاتي، وفق ما تشير كتابات نصري الصايغ. في الكلمة عينها، تحدّث كيف أنَّ الحرب جعلت أحد أصدقائه يأتي إلى مكتبته (أي مكتبة الصايغ) ليجلس فيها ويقرأ، لأنه لم يكن يستطيع القراءة حيث يسكن، إبان تقسيم بيروت إلى بيروتين. سأل صديقه يومها: «إذاً ماذا تفعل خلال اليوم حين لا تكون تقرأ هنا؟» ليجيبه صديقه ــ ولربما بحزن الدنيا وواقعيتها المدهشة ـــ «ألبس رأس حمار». يشير نصري إلى أن الحروب تريدنا هكذا، وتجعلنا هكذا. هو كان قد أخبرنا في السابق بأنّ مبادرته هي «محاولة لجعل الكتاب متداولاً بين القرّاء، خصوصاً أنّ الأزمة المالية جعلت الكتاب من فئة الكماليات، وهذا أسوأ ما تُصاب به الشعوب عندما يصبح الكتاب والمعرفة في آخر برامج حياتها. كانت الجامعات في السابق تعتمد على ما يُقدّم من محاضرات في فروعها، وما يُصار من نقاشات لاحقاً في داخلها. أي أن الحياة الثقافية كانت حياةً في الجامعة وفي الجريدة، والشارع، ودور النشر. حالياً كل هذا تغيّر وتضاءل، وصار الخوف عليه أن ينعدم تماماً. الخوف هو أن تصبح القراءة والكتابة من المشكلات؛ لا جزءاً من الحوار. اليوم الجامعات لديها مشكلات، والمشكلات تعني في النهاية أن الإنسان يعيد ترتيب أولوياته بحيث تصبح الأولوية بحسب الحاجة: يريد أن يأكل، أن يشرب، أن يذهب إلى المستشفى، أن يحصل على دولار». توقف بعدها عند مسرحيته «خلص» التي تتناول حكاية حقيقية يدور محورها حول ثلاثة مساجين في أحد السجون العربية، وهي قصةٌ حقيقية رواها له الكاتب المصري المعروف جميل مطر؛ وكان اثنان من هؤلاء المساجين وُجدا عاريين، فيما الثالث الذي يموت لاحقاً تحت التعذيب يرتدي ثياباً داخلية فقط. لاحقاً حين يموت الثالث، يصبح الصراع حول من سيرث «الثوب الداخلي القصير»، ومن سيعيش حياته. «أجبته فوراً بأنّ ذلك سيكون موضوع مسرحيتي. لذلك قمت بكتابة مسرحية حول هؤلاء الذين كانوا في السجن والصراع الذي دار بينهم، بحيث كان هذا الصراع وجودياً عنوانه «الكيلوت»» يخبرنا الباحث اللبناني.
تحدّثت الممرضة باميلا زينون عن إنقاذها الرضّع لحظة انفجار المرفأ

بعد كلمة الصايغ المقتضبة، حضرت الممرضة باميلا زينون التي كانت خفرةً للغاية، وحكت عن تجربتها إبان انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب (أغسطس) 2020، إذ كانت تعمل ممرضة في «مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي» في منطقة الأشرفية، واستطاعت بجلدٍ وصبرٍ أن تنقذ ثلاثة أطفالٍ رضّع، كانوا في الحاضنة. ما فعلته زينون كان مقاومةً، مقاومةً على طريقتها، في مكانها، وبكل فطريتها ومباشرتها. كانت كلمة الممرضة الشابة لا تحتاج إلى الكثير كي تدخل قلوب المستمعين، فالتجارب التي يحكي عنها نصري الصايغ، لا تختلف عن تجربة باميلا، الإنسانية والحقيقية.
في المحصّلة، أراده نصري الصايغ لقاء يشبه الناس الذين يحبّهم، هو قالها سابقاً لنا: «هذا لقاءٌ مع من أحبهم ويحبونني». ولهذا كان اللقاء مليئاً بالكثير من الابتسامات والضحكات والكثير من التفاصيل الودودة.