بعد أكثر من 20 عاماً، عاد الفاضل الجزيري (1948) الى تقديم عرضه الشهير «الحضرة»، تغيرت خلالها كل المعطيات في البلاد، وأصبحت المكاسب التي كان التونسيون يعتقدون أنّها غير قابلة للنقاش محل جدال بل رفض أيضاً! حين قدمه للمرة الأولى في أوائل التسعينيات، كان هدف العرض (مدته ساعتان) تقديم الإنشاد الديني الذي اشتهرت به المجموعات الصوفية في تونس وشمال أفريقيا ضمن قالب فرجوي يستفيد من التقنيات المسرحية التي خبرها الجزيري مؤسس «المسرح الجديد» مع رفيق دربه الفاضل الجعايبي (راجع المقال في مكان آخر من الصفحة). يومذاك، حقق العرض نجاحاً منقطع النظير، وكان التونسيون يكتشفون للمرة الأولى الإنشاد الديني الصوفي الذي تغنيه فرق «العيساوية» و«القادرية» و«التيجانية» وغيرها من الطرق الصوفية المنتشرة في البلاد.
بعد عشرين عاماً، استأنف الجزيري تقديم هذا العرض المبهر الذي شارك فيه حوالى خمسين بين منشدين وعازفي ايقاع (طبل وطار الذي يسمى في تونس البندير) وناي، وهي الآلات التقليدية التي تستعمل عادة في الإنشاد الصوفي. لكن هذه المرة، أضاف الجزيري إلى هذه الآلات من التخت العربي، آلات أخرى من الموسيقى الغربية مثل الساكسوفون، والكمنجة والأرغن والغيتار. مغامرة نجح فيها الجزيري المفتون بالتجريب، هو الذي طعم الإسناد الصوفي الذي كان يقدَّم اساساً في زوايا الأولياء الصالحين بموسيقى الجاز ليصنع عملاً فرجوياً مبهراً.
وكما فعل في العرض الاول، اعتمد الجزيري على نجمين من نجوم الأغنية في تونس هما الهادي دنيا المغني الشعبي الذي كان الجزيري وراء شهرته الواسعة بعدما قدمه في عرض «النوبة» أوائل التسعينيات، وأيضاً كريم شعيب الذي يعد من أجمل الأصوات التونسية، لكن شهرته انطلقت مع «الحضرة» الأولى.
هذا العرض الذي يحتفي بالإنشاد الديني وبالطرق الصوفية، قدّمه الجزيري في مرحلة مفصلية من تاريخ تونس حين بدأت المواجهة بين الاسلام السياسي ممثلاً أساساً في حركة «النهضة» وبين نظام بن علي مطلع التسعينيات. الجزيري الذي تشبّع في طفولته بالمناخات الصوفية والأوراد في رحاب الجامع الأعظم في مدينة تونس العتيقة التي عاش فيها طفولته، أراد أن يمنح الإنشاد الديني طابعاً جمالياً فرجوياً يخرجه من الصورة النمطية التي كانت تقدمه بها التلفزة والإذاعة الرسميتان أيام الزعيم الحبيب بورقيبة.
بهذا العرض، حوّل الجزيري الإنشاد الديني من مجرد أوراد وتراتيل في رحاب الزوايا والمقامات الدينية الى أهازيج يرددها الشبان في الاحتفالات وفي ملاعب الكرة مثل «يا بلحسن يا شاذلي» أو «على رايس البحار» وهو اللقب الشعبي الذي يطلقه التونسيون جيلاً بعد جيلاً على الولي الصالح سيدي ابي سعيد الباجي الذي تأسست حول مقامه قرية سيدي بوسعيد التي تعد من أشهر الوجهات السياحية في العالم.
أما عرض «الحضرة» في صيغته الجديدة، فقد جاء بعد التخريب الذي تعرّضت له زوايا الأولياء الصالحين، اذ أحرقت مجموعات وهابية ملثمة تحت جنح الظلام عدداً كبيراً من مقامات الأولياء الصالحين في جهات مختلفة من البلاد تمثل معالم اثرية ومعالم روحية وذاكرة مشتركة للتونسيين. وقد لعبت المقامات دوراً مركزياً في الحركة الوطنية وفي الدفاع عن الخصوصيات الثقافية للبلاد زمن الاستعمار الفرنسي.
هذه الجريمة التي تعرضت لها زوايا الأولياء الصالحين بعد صعود حركة «النهضة» الى الحكم، دفعت الفاضل الجزيري كما يقول في تصريح لـ«الاخبار» الى إعادة تقديم «الحضرة» للفت الانتباه والاهتمام الى هذا التراث الصوفي الذي يريدون اجتثاثه باسم دعاوى وهابية غريبة على الاسلام والمسلمين.
بعد مهرجاني «المدينة» و«بوقرنين» في ضواحي تونس، سافر الفاضل الجزيري برفقة مجموعة «الحضرة» الى الجزائر لتقديم هذا العمل الاستثنائي في العاصمة، على أن يجول العمل على عدد من المدن في بلد المليون شهيد.