ظلّت أعمال الكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي (1920_ 1994) بمنأى عن لغة الضاد، عدا شذرات متفرّقة من قصائده، نظراً لجسارتها في هتك «المحرّمات». روايته الأولى «مكتب البريد» (1971)، وجدت طريقها أخيراً إلى المكتبة العربية («الجمل»، ترجمة ريم غنايم)، فهي أقلّ خشونة من سواها، وأقرب إلى السيرة الذاتية لهذا الرجل المحطّم. عمل بوكوفسكي في البريد نحو 11سنة، في أقسى الظروف، وهو ما نجده جليّاً في حياة بطله هنري تشيناسكي. مذاق مختلف في اكتشاف ثراء اليومي والمبذول والمهمل عن طريق استثمار الوقائع الجانبية، أو ما يضعه روائيون آخرون في سلّة المهملات. هذه المرّة، نحن إزاء شخصية أخرى لا تشبه ما كتبه انطونيو سكارميتا في «ساعي بريد نيرودا». ذلك أن ساعي بوكوفسكي يعيش حياة مرهقة وشاقة وعبثية، وهذا ما يتيح دخوله مناطق سردية بكر، وإضاءة أزمة الفرد في مجتمع آلي طاحن، لا يسمح له بالتقاط أنفاسه. هكذا ينتقم من محيطه بتحطيم قيمه الزائفة، وإماطة اللثام عن لغة شوارعية تتواءم مع نمط العيش، وفظاظة الواقع، من دون مواربة أو احتشام، كنوع من الاحتجاج العلني.
مغامرات غرامية مرتجلة وحانات وأعمال شاقة وكحول لشخص أعزل، لم يجد وسيلة للدفاع عن وجوده، إلا بتقشير اللغة من بلاغتها الزائفة وهتك محرماتها، وإطاحة الذهنية المستقرة. وهو ما جعل المؤسسة الأدبية الأميركية تنبذه خارجاً، واصفةً إياه بأنه «كاتب تخريبي» سواء على صعيد الكتابة أو لجهة سلوكه المجتمعي. هذا الرفض لم يوقفه عن الكتابة، إذ أنجز نحو 60 كتاباً، في الشعر والرواية واليوميات، راصداً طبقات الحياة السفلية في المجتمع الأميركي، غير عابئ بتصنيفه في خانة الأصوات القذرة. فالصراحة الخشنة هي المتن الأساسي لنصوصه الفجّة التي تشبه حياته تماماً، من دون تزويق أو مكابرة. هو عامل البريد وسائق الشاحنة والعامل في مسلخ البهائم، والمقامر في مباريات سباق الخيل، والكحولي والمتسكع والكسول والشهواني. هكذا استثمر تفاصيل حياته البائسة في الكتابة، مقابل مئة دولار شهرياً، غامر بها أحد الناشرين، فأنجز نصوصاً مفارقة للسائد، وصورة واضحة عن الحلم الأميركي المجهض. لن نجد لدى تشارلز بوكوفسكي ألعاباً لغوية، أو مجازات، إنما وقائع عاشها عن كثب خلال عمله في مكتب البريد.

روايته الأولى
انتقلت أخيراً إلى المكتبة العربية
هو يستثمر كل ما يخص المطبخ الداخلي لهذا العمل، والمؤامرات التي تدور في دهاليزه، معززاً سرده ببيانات بريدية، وإنذارات موجهة إليه من المصلحة، بسبب تمرّده على عبودية الوظيفة. يقوده هذا لاحقاً إلى كشف أسباب فشله في بناء علاقة أسرية متينة، إذ ينتقل من بيت إلى آخر، منهياً علاقة غرامية عابرة، نظراً إلى سلوكياته الفجّة مع شريكاته، واحدة تلو الأخرى. لا تخلُ هذه البساطة من نبرة حزينة وأخرى غاضبة، تتمثّل بسوقية واضحة في معالجة ما يواجهه من مشكلات يومية، مدافعاً عن نفسه في مجتمع قاسٍ لا يرحم، وبحث محموم عن حرية بلا قيود، وحب صعب التحقّق. ولكن هل تمكّنت المؤسسة الأدبية الأميركية الرسمية من إسكات صوت هذا الكاتب الملعون؟ على العكس تماماً، فقد تلقفته اللغات الأخرى بشغف، وتُرجمت روايته هذه إلى نحو 15 لغة في العالم، بناء على تصنيف نقدي مغاير، وجد في هذه الرواية «فسيفساء تعكس العفونة والرداءة في أعمق أشكالها، واشتغال عميق على معنى التخييل الذاتي وبراعة السيّر في الأرض المجهولة». أسلوبية مباغتة تعيد الاعتبار إلى الهامش وقدرته على نسج الحكايات المهملة ببراعة. ها نحن نكتشف متأخرين كاتباً فذّاً من جيل السبعينيات الأميركي، فهل ستكون رواية «مكتب البريد» فاتحة لاكتشاف أعماله الأخرى؟