«العُكش» لمن لا يعرفه هو «الإعلامي» المصري توفيق عكاشة، صاحب قناة «الفراعين» (قد تكون تعني جمع فرعون). و«العُكش» هو نظرية جديدة (ومدرسة) في الإعلام المصري. بعد مدارس الإعلام المصرية التي قدّمت يوماً «روز اليوسف»، وعلي ومصطفى أمين، ومحمد حسنين هيكل وسواهم من القامات الكبيرة، يبدو «العُكش» هو ميزان العصر الجديد وسيّده.

لماذا؟ يكمن الشيطان دائماً في التفاصيل. وفي التفاصيل أنّ النظام المصري «انقلب» على الإخوان المسلمين، فشنّت الجماعة الأكثر تنظيماً هجوماً عليه بكل ما تستطيعه من قوة.
فلسطينياً، اعتبرت حركة «حماس» شريكاً للإخوان، واتهمها نظام السيسي علانيةً بمساندتهم والقيام بأعمال شغب على الأراضي المصرية، مغلقاً منفذ غزّة الوحيد على الوطن العربي: معبر رفح. ترافق ذلك مع حملة إعلامية شعواء متمثلة في أبلسة كل ما هو فلسطيني وتحديداً «حماس»، متماهيةً مع الإعلام الصهيوني في مجالاتٍ عدة. ولئن تحدثنا عن مدرسة «العُكش» (الاسم الشعبي لعكاشة)، يمكن تبيان أركانها مثلاً حين نسمع تحليله الأخير عن أحداث غزّة: «بعض المندسين في غزة؛ من هم المندسون في غزة؟ حماس. دول عايزين يجرجروا مصر ويزوّدوا ليها المشاكل... وتم التنسيق بين «حماس» والاستخبارات الإسرائيلية لإطلاق الصواريخ على إسرائيل». هكذا، بكل بساطة «أفتى» الرجل في الأمر، من دون أي منطق أو مهارة تحليلية. إنّه فقط «رغي» (كلمة عامية تستخدم للدلالة على الكلام الكثير من دون فائدة) و«هرتلة» (تعبير مصري محكي يعني عدم الترابط أو غياب المنطق أو غياب العلاقة بين الكلام والموضوع الأساسي). لكن توفيق عكاشة ليس مجرد إعلامي. لقد صار قاعدة يسير عليها معظم إعلاميّي جيله، وإن أنكروا فضله وموهبته!

شكراً يا خواجة


كما يعلم الجميع، فإنّ الصعود إلى القمة «إعلامياً» (كما في أي مجال آخر) في ظل نظام «قمعي» تسيطر عليه المحسوبيات، يتطلب أساساً قدرة هائلةً على «التطبيل والتزمير» للنظام ورئيسه والقرارات التي تصدر عنه. مع بدء العدوان الصهيوني على غزة، وجدت نائبة رئيس تحرير جريدة «الأهرام» الحكومية عزة سامي الفرصة سانحة، فغرّدت على تويتر بكلام تحريضي، شاكرةً رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، قائلةً بالحرف: «كتّر خيرك يا نتنياهو، ربنا يكتر من أمثالك للقضاء على حماس، رأس الفساد والخيانة والعمالة الإخوانية». لكن حالة الشكر للعدو الصهيوني هذه ليست الأولى. مقدّم برنامج «القاهرة اليوم»، عمرو أديب فعل ذلك أثناء الاعتداء الإسرائيلي السابق على غزّة، ضمن فيديو شهير يشكر فيه «الخواجة» الصهيوني على تدميره لـ«حماس»، مؤكداً بكل قواه أنّ الأمر مبهج ويستدعي التصفيق والتأييد.
طالبت أماني الخياط بإغلاق معبر رفح وعدم السماح للجرحى بالدخول


كي نفهم ما يحدث، لا يمكن أبداً التعامل مع الواقع خارج كونه منظومة متكاملة تتحرك ضمن «ماكينة» واحدة تهدف إلى شرعنة قتل «حماس» والفلسطيني تالياً. وفي حين أنّ هذا الأمر لم يحدث بين ليلة وضحاها، فإنّه لن ينتهي سريعاً أيضاً.
يذكر أنّ بروفسور الإعلام الصهيوني داني روبنشتاين كان قد تحدث عبر قناة «الجزيرة» القطرية عن وجود تنسيقٍ كبير الآن بين الدولة العبرية والنظام المصري للقضاء على «حماس» بكل الوسائل المتاحة وغير المتاحة. الأمر «مصلحة مشتركة للجميع»، بحسب تعبيره الدقيق. خلال العام الفائت، دأب الإعلام المصري على توجيه اللوم إلى حركة «حماس» على أي حدثٍ أمني، مهما كان تافهاً. وكم كان مستغرباً، مثلاً، انضمام إبراهيم عيسى المعارض الأبرز للرئيس السابق حسني مبارك، إلى جوقة «العُكش» من خلال تعابير على شاكلة «حماس هي عدو لكل الشعب المصري». قد يستوعب المرء غضب اليساري السابق على الحركة الإسلامية، ولكن ما لا يُفهم هو سلوكه تجاه أحداث غزّة الحالية التي تأتي في السياق نفسه.
ربما عيسى يعرف أنّه إن لم يفعل ذلك سيكون مصيره «الركن على الرف والقعدة في البيت»، كما حدث مع الإعلامي الساخر باسم يوسف صاحب برنامج «البرنامج» الذي رفض دخول اللعبة، فأوقف برنامجه نهائياً.


لن يمرّوا، دعهم يموتون


أما المقدمة أماني الخياط، فوجدت أنّها لا تستطيع المنافسة إن لم ترفع مستوى خطابها، فقرّرت ركوب الموجة على طريقتها. الخياط التي تعمل في قناة «أون. تي. في.» التابعة للملياردير نجيب ساويريس، كتبت على تويتر (هي الأخرى) أوّل أيام العدوان على غزّة: «لا تسمحوا بمرور الجرحى الفلسطينيين، أغلقوا المعابر! لا تتركوهم يمرّون»، سائلة «لماذا لا يُقدم الطيران الصهيوني على تدمير بؤر حماس الإرهابية التي يعرفها جيداً؟».
على القناة نفسها، كان مقدم البرامج، جابر القرموطي، يشنّ هجوماً حاداً على مطالبي الجيش المصري بالتدخل لصالح غزّة، قائلاً: «أين كنتم حين كانت حماس تحارب الجيش المصري في سيناء؟»، مع العلم بأنّه رسمياً لم يثبت أي تحقيق رسمي ضلوع أعضاء في «حماس» في أعمال إرهابية في مصر وإن اعتبرت بعض الحركات الإسلامية قريبة منها. لكن غسل الإعلام المصري للعقول لا بد من أن يكون كاملاً، فأنت حين ترمي ثقل الاتهام على خصمك لا تسعى خلف الحقيقة بمقدار ما تهدف إلى تلطيخ سمعته وتأكيد الجريمة. هذا الأسلوب هو حرفياً ما يفعله «العُكش»، وحرفته: الرغي، والهرتلة.
شكرت نائبة رئيس تحرير جريدة
«الأهرام» عزة سامي رئيس وزراء
العدو بنيامين نتنياهو

وهو نفس ما قامت به أيضاً أماني الخياط (على القناة نفسها) ضمن برنامجها الصباحي «صباح أون» ـــ المفترض أنّه عائلي يتوجه إلى ربّات المنازل ـــ حين أكدت أن ما يحدث في القطاع هو «مسرحيةٌ هزلية»، مرددةً أهزوجة الاحتلال التي تحمّل «حماس» مسؤولية الدمار الحاصل وكل «الضحايا (حسب تعبيرها) الذين يسقطون هناك»، مضيفةً إنّ «الحركة تريد أن تخرج بطلة للعالم من تحت دماء الأطفال والنساء»، قبل أن تخدم حديثها برسالة «من القلب للقلب» إلى الشعب المصري. طلبت الخياط من أبناء بلدها عدم الانسياق خلف ما يحدث في غزّة من دون رؤيته في إطاره الصحيح، فنتنياهو «ينسّق العلاقة بين قطر و«حماس» وإيران والولايات المتحدة». هنا يبدو تعبير «الهرتلة» في مكانه الصحيح، وبدقة!
أما جائزة الأداء المثالي لقناة، فمن الطبيعي أن تكون من نصيب شبكة «سي. بي. سي.» المملوكة لرجل الأعمال المصري محمد أمين. بدأت اللعبة من حيث أنهاها «العُكش». قالت صراحة عبر صفحتها الرسمية على فايسبوك إن «طائرات سلاح الجو الإسرائيلي تغير على 12 هدفاً إرهابياً في غزة الليلة الماضية»، لكنها عدلت عن الجملة معللةً الأمر بـ«خطأ فردي» إثر ضغط تعليقات الجمهور الغاضبة (الحادثة مشابهة لحالة mtv اللبنانية التي تراجعت عن وصف ما يحل في غزّة بـ«العدوان على إسرائيل» تحت ضغط الجمهور).
وبدا لافتاً إستشهاد صفحة «إسرائيل تتكلّم بالعربية» الفايسبوكية بتصريحات الإعلاميين المصريين المهاجمة لـ«حماس» والمبرئة للصهاينة.

وإحنا مالنا؟


لكن، ماذا حدث إبّان أوّل أيام العدوان؟ كيف تلقى المصريون الخبر بداية؟ هل يُعقل أن يصمت شعب المحروسة عن الظلم القائم ضد أشقائه في «غزة هاشم»؟ لا أحد يعرف إجابة هذا السؤال، إذ انشغل التلفزيون المصري أوّل أيام العدوان الصهيوني «قلباً وقالباً» في المشاكل الحياتية الداخلية في البلاد، من التركيز على القرارات الاقتصادية القاسية التي اتخذتها الحكومة وردّة فعل الشارع عليها، إلى الحديث عن أزمات دعم الوقود والبترول. في هذا السياق، استضافت لميس الحديدي في برنامجها «هنا العاصمة» (cbc) وزير البترول السابق للحديث عن تلك الأزمة، فيما غرقت أغلب القنوات في مقابلات مع خبراء اقتصاديين، ووزراء سابقين وحاليين للتطرّق إلى هذه المواضيع، متلافين ما يحدث في غزة.
في المقابل، شذ عن القاعدة برنامج «السادة المحترمون» (on tv). وإن لم يتحدّث عن الحرب على قطاع غزة بشكل مباشر، إلا أنّه تناول المكالمة الهاتفية التي جرت بين الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والفلسطيني محمود عباس حولها. ولعلّ هذا التصرّف يعود إلى الاهتمام بالحديث عن مكالمة «الريّس».
ويبدو أنّ التهميش في الحديث عن الموضوع كان لسبب مهم هو أنّ هذه الشاشات لم تعرف ماذا تفعل إبان العدوان، ويبدو أنّ «القرار» لم يكن قد اتخذ بعد حول كيفية التعامل مع اعتداء مماثل. كان سبب المماطلة في الحديث عن الموضوع هو التخبّط بشأن ماذا يجب أن يفعله هؤلاء الإعلاميون: هل نشتم غزّة وأهلها؟ هل نشتم «حماس» وحدها؟ هل ندافع عنهم ضد الاعتداء القائم عليهم؟ ماذا نفعل بالضبط؟ كيف نبقى في أماكننا على الشاشة ولا يغضب منا «سي السيّد» القابع في القصر؟
باختصار، هو إعلام «العُكش». إعلام يستخدم أي وسيلة للبقاء في منصبه: الخداع، والكذب، والمماطلة، ولوم للضحية والتشفي بها تحت مسميات كاذبة. لكن أهم ما فيه أنّه يتعامل بصلافة صادقة مع حقيقته: أنا هكذا لا أبالي ولن أتغيّر. افعل ما شئت، فالشعب سيأخذ أي شيء أقدمه!




العارف بكل شي

لا يعرف أحد أصل نشأة الرجل سوى ذلك الفيديو الشهير له على يوتيوب وهو يقبّل يد صفوت الشريف أثناء افتتاح إحدى المؤسسات. والشريف هو ضابط مخابرات سابق، وسياسي مصري كان رئيساً لـ«مجلس الشورى المصري»، ورجلاً شديد القوة أيّام حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك. ولد عكاشة (1967) في نبروة في الدقهلية (شمال شرقي القاهرة)، وكان عضواً في «الحزب الوطني» الحاكم كنائب في مجلس الشعب عن دائرة نبروة (دورة 2010) بعد انسحاب مرشح حزب «الوفد» فؤاد بدراوي.
دخل عالم الإعلام عام 1991، لكن «إعجازه» المهني لم يظهر إلا بعد إنشائه قناة «الفراعين»، حيث قدّم للمرّة الأولى برنامجه «السياسي» الذي يتحدث خلاله باسترسال شديد الغرابة في كثير من الأحيان.
يتميز أسلوبه بالشتائم وعدم الاحترام (باستثناء السلطة الحاكمة طبعاً، بخلاف الإخوان الذين يكرههم بشدّة)، وبعدم إتقانة للغة الإنكليزية، رغم قوله إنّه حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة أجنبية (أخطأ أكثر من مرة على الهواء بلفظ اسمها). هاجم عكاشة شخصيات لها قدسية في الشارع المصري مثل الشهيد خالد سعيد، واتهمه بأنّه كان يتعاطى البانغو (مادة مخدرة)، فرفعت والدة الشهيد عليه دعوى أوقفت برنامجه لفترة من الزمن. كذلك كانت لـ«العُكش» (كما يلقبه المصريون) صولات وجولات من نوعٍ آخر؛ إذ يطرح نظريات سياسية لا يبررها أي منطق، كما حصل حين تنبّأ بأنّ رئيس إثيوبيا سيأتي راكعاً طالباً الرحمة من النظام المصري بعد موضوع «سد النهضة» الذي تقيمه إثيوبيا على نهر النيل، أو وصفه الاحتلال الأميركي للعراق بأنّه «فيلم من بطولة ليوناردو دي كيري» (استبدل كابريو بكيري). فضلاً عن توبيخه إحدى مذيعات «الفراعين» وطردها على الهواء مباشرة، وتلقين المذيعة حياة الدرديري ماذا تقول. وأخيراً وليس آخراً: يستطيع الرجل التحدّث أيضاً في الدين، كما فسّر رحلة الإسراء والمعراج مرةً في إحدى حلقاته. باختصار، ربّما يفهم عكاشة في كل شيء... إلا الإعلام.