تأتي هذه المقالة في مناسبة الذكرى الخمسين لاغتيال الأديب الشهيد غسان كنفاني (1936 ــ 1972) مع ابنة أخته لميس نجم، لتشير إلى الأثر الذي تركته كتاباته في جيل ما بعد النكبة.من حقنا أن نتساءل هنا: ما الذي يجعل قراءة مقالة أو كتيّب من 150 صفحة ممتعاً وليس فقط مفيداً؟ إن لم يضع الكاتب جزءاً من عاطفته، وهل نجرؤ على القول روحه وشخصيته ضمن النص، بحيث تتناوب على القارئ المشاعر بين ابتسامٍ وضحكٍ إلى حزن خلال القراءة، كما ينقل لك النص وصف جمال الطبيعة بحيث تقف مع صاحبه إجلالاً له. أجل ما هو السر الذي يجعل لغة غسان كنفاني خالدة بعد كل هذا الغياب؟ إذا لم تكن تلك اللغة قد تضمنت تلك العاطفة الجيّاشة التي استطاع الكاتب نسجها وحياكتها ضمن كتابته. أيضاً نتساءل عن عمق وسعة نقاشات كنفاني التي تظهر في محاوراته ونقاشاته مع المسؤولين والمثقفين في كلا البلدين (الصين والهند)، وقدرته على التقاط المخفي وغير المصرّح به من قبلهم، ويعود ذلك بالطبع إلى ثقافته وسعة اطّلاعه.

التقى كنفاني بالشاعر الماريشال شن يي الذي عرض موقف الصين من حركات التحرر في العالم الثالث

نشير إلى أنّ هذه المقالة تستدعي مستويات عدة من القراءة، فبإمكان القارئ وضعها ضمن أدب الرحلات، كما بإمكاننا اعتبارها وثيقة تاريخية لتجربة شعوب وحضارات في مرحلة معينة من تاريخ الما ــ بعد استقلالها أو ما ــ بعد استعمارها في منتصف القرن العشرين. ويمكن تناولها من ناحية أيديولوجيّة فكرية نقاشية بامتياز، لكننا اخترنا هنا التركيز على الجانب الثقافي والحضاري فيها تكريماً للذكرى السنوية الخمسين لمحاولة تغييب كاتبها المبدع الشهيد غسان كنفاني. وإذ نستشهد بمقدمة «المجلد الخامس للكتابات السياسية» للأديب الشهيد التي قدمّ لها رفيق نضاله فضل النقيب، فإننا سنركز هنا على الكامن الثقافي من الناحية الحضارية. كما سنحاول قدر المستطاع استكشاف ما هو مشترك بين هذه الحضارات، إضافة إلى الإشارة إلى التجربة الحزبية لغسان كنفاني، فضل النقيب وبلال الحسن وغيرهم في سوريا أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، فترة الوحدة بين مصر وسوريا. فقد أشار فضل النقيب في مقدمته إلى تفتق عبقرية غسان في تلك المرحلة من ناحية تعدد كتاباته، تصاميمه ورسومه... كما يمضي فضل النقيب إلى الاستشهاد بمقولة إدوارد سعيد حول الكتابة المقاومة، بالإضافة إلى إلقائه الضوء على النقد السياسي والفكري الذي شكّلته كتابات غسان كنفاني للتجربة السياسية والنضالية للمقاومة الفلسطينية ما بعد النكبة بما عنونه النقيب بنقد «تقديس الكفاح المسلّح».
لكن ما هو المشترك بين هذه الحضارات:
أولاً: تاريخها الموغل في القدم لآلاف السنين وحضاراتها الممتدة عبر التاريخ
ثانياً: التحدي السكاني الذي يتمحور حول الأعداد السكانية الهائلة، حيث تُشكّل الصين تقريباً خُمس البشرية بينما الهند سُدسها، بحيث أنّ كيفية توفير الطعام لهذه الأعداد يشكل إعجازاً يفوق الوصف، فكيف بالأمور الحياتية الأخرى.
ثالثاً: تعدد لغاتها، دياناتها، ثقافاتها وغيرها من أمور حياتية أُخرى.
رابعاً: التاريخ الاستعماري الطويل لأكثر من 150 سنة تخلّلته حروب أهلية وثورات تخلّف وجهل وأميّة، بالإضافة إلى حروب المخدرات وغيرها. هذا التاريخ شكل جزءاً من هويتها الثقافية والصناعية، كما في حال الهند حيث شكلت كلكتا العاصمة الصناعية لمصانع الأسلحة البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية والتي أمدَّت الجيوش الغربية بالأسلحة الضرورية في مواجهة جيش اليابان.
خامساً: العلاقة بين الزراعة التي بحسب الزعيم الصيني ماو تسي تونغ هي مفتاح آسيا، والصناعة التي هي مستقبل هذه المجتمعات، وبينما كان طموح الهند أن تصل عام 1980 إلى توفير وجبتَي طعام لساكنيها، ها هي الآن أحد أكبر مصدّري القمح في العالم، خاصة بعد الحرب الأوكرانية. كما تصدّر الهند من الحلول البرمجية بمقدار ما تصدره بعض الدول من النفط، بينما يتقدم الاقتصاد الصيني سريعاً ليصبح من أوائل المنتجين العالميين.
سادساً: في الهند كما في الصين توجد جاليات إسلامية كبيرة عن طريق تاريخ العلاقات التجارية التاريخية التي حصلت سابقاً. يشير كنفاني إلى أنّ الإسلام دخل إلى الصين من البحر في الجنوب، ما يدل على تبادل تجاري قديم مع تلك البلاد البعيدة. أمّا في الهند فعن طريق الفتوحات الإسلامية في بلاد السند والهند، بالإضافة إلى مملكة المغول شمال الهند التي استمرت لأكثر من مئتي سنة. كل ذلك يستدعي اهتماماً أكبر بالعلاقات بين البلدان العربية وتلك الحضارات التي يمكن أن يُشكل ذلك التاريخ المشترك جسراً للتواصل معها.
أعطى كنفاني للمقالة عنواناً بـ «... ثُم أشرقت آسيا»، ونشعر هنا بأن كنفاني قد تقصَّدَ وضع النقاط الثلاث قبل الإشراق، لكي يشير إلى كل محاولات منع هذا الإشراق، أو ما سبقه وهو يترك للقارئ استخلاص ذلك من خلال المقالة.
كما أهدى كنفاني المقالة إلى أبيه «الذي تنسج خلاياه، أشرعة تنادي بالرحيل». وهو يفتتح مقالته بوصف العالم الذي سيدخل إليه عبر «جدارٍ من الريح» بـ «من هناك استوردَ العالم، حين كان يعتبر ملاعق الحجارة إنجازاً ، أخبار البارود والورق، ومن هناك أيضاً جاء بوذا أولاً من الغيم وجاء كونفوشيوس من الزحام».
وصل كنفاني إلى الصين عن طريق هونغ كونغ التي وصفها بـ «فترينة العالم»، حيث كل شيء معروض للبيع حتّى العلاقات بين البشر. ولهذا فهو استحضر روح زوربا اليوناني الذي وبّخه بشدة. التقى على حدود الصين بالمسز روربرتز العجوز النيوزيلاندية التي لاحظ أنّها تقوم «بتضخيم حرف الألف كأهالي حلب». تبرز هنا موهبة كنفاني التصويرية إلى درجة أنّ القارئ يستطيع تخيّل المشهد كاملاً، كأنّه فيلم سينمائي. تستمر هذه الخاصية عند كنفاني خلال الرحلة وهي تشهد له هنا كنموذج لعاطفة الكتابة من حيث قدرته على رؤية غير المرئي أو غير المصرّح عنه مثل تمييزه بين حالات الفقر في بكين وحالات الفقر في شوارع كلكتا أو بومباي. أسلوب كنفاني جدّي إلى أبعد الحدود خلال النقاشات مع المسؤولين، حيث تتكشف قُدرته على النقاشات في المواضيع الاستراتيجية والثقافية إلى قدرته على النقاش حول كلفة إنتاج علبة ثقاب مع أحد المسؤولين الصينيّين وحساب ثمنها بالليرة اللبنانية.
تنقّل بين الساحة الحمراء حيث تمّ الاحتفال بذكرى انتصار الثورة، وبكين نفسها ملاحظاً فقرها ونظافتها، ومقارناً بينها وبين فخامة عاصمة الأباطرة الصينيين، ولاحقاً زار سور الصين العظيم الذي شبّهه بـ «الأفعى الحجرية العملاقة التي حافظت على العذريّة الصينية من الحضارات الأخرى». كما زار إحدى التعاونيات الزراعية، ومصانع تربية الحيوانات ودخل في نقاش حول الإنتاجية وتصفية الإقطاع والملكية الفردية والجماعية. تبعها زيارة إلى جامع بكين حيث تمّ نقاشٌ حول قضيّة الأقليات الدينية لافتاً النظر إلى أنّه من الممتع أن يشهد تلك الكتابات العربية داخل المسجد... «كالحزام على بعد كل تلك الأميال من الوطن»، مذكراً بأنّ الإسلام وصل إلى تلك البلاد من الجنوب وعن طريق البحر.
حاول كنفاني مقابلة ماو تسي تونغ، إلا أنّه ما تسنّى له ذلك، وبدلاً عنه التقى بالرجل الثاني في الصين الشاعر الماريشال شن يي وزير الخارجية وعضو المكتب السياسي، الذي عرض موجزاً تاريخياً لمسيرة الثورة في الصين، والموقف من حركات التحرر في العالم الثالث. بدا واضحاً أنّ الرجل كان مطلاً على الأسئلة التي طرحها كنفاني على مرافقيه خلال الرحلة، بحيث أنّه استفسر منه عن سؤاله عن طبيعة الخلاف مع الاتحاد السوفياتي ليكمل لاحقاً شرح وجهة نظرة الصين من ذلك.
تضمنت الرحلة لاحقاً، زيارة إلى مدينة شنغهاي التي يَلحظ بأنها مدينة المستقبل، كونها مدينة عصرية. كما تمّت زيارة المعرض الصناعي الدائم حيث بدا طابع المدينة الصناعي. وفي هانغ شو، بدا كنفاني مشدوهاً بجمال الطبيعة التي انعكست في أسماء الأماكن. نلحظُ هنا نوعاً من الأدب الشعري في كتابة كنفاني، إلى درجة أنّه وصفَ أزيز عجلات القطار عند المغادرة كأنّه أنين للفراق. كما أنّ صمت المسز روبرتز حينها كان دليلاً على تأثّرها بذلك الجمال.
أتت ملاحظات كنفاني عن الرحلة بعد خمسة عشر يوماً من التجوال والاستنتاجات التي خرج بها في عرض تاريخي موجز للتجربة الصينية والعلاقة مع السوفيات الروس وقيادة ماو، ومن ثم استقالته عام 1959. مضى بعدها من ذكر الأرقام إلى ترجمتها العملية من حيث نواحي الدخل وقوة العملة إلى متوسط الدخل وإلى الاهتمام بالزراعة والصناعة. كما أنّه قارن وضع الصين من حيث هي معركة مفتوحة مع الإنتاج وحضور مكبر الصوت في كل مكان حيث يُشبهُه كنفاني بحضور «الأخ الكبير» في رواية جورج أورويل «1984»، وحيث تحل كاميرات الفيديو محلّها حالياً في كل مدن العالم. أيضاً لفت كنفاني النظر إلى أنّ السائر في شوارع الصين يشعر بذاك الشعور التعبوي بأن «الشعب هناك يعيش حالة من الحصار بأخبار حرب أمس، ومعبأ لحرب غد».
غادر كنفاني الصين عن نفس الطريق مروراً بهونغ كونغ، ومن ثم تايلاند في الطريق إلى الهند. قبل وصوله إلى تايلاند، حاول نزع كل فكرة عن فيلم يول برينر «الملك وأنا»، أي نزع سمات الاستشراق الغربي الذي صوّر تايلند الواقعة في حب الغرب. يصف كنفاني نزوله من المطار «بسيارة كركوعة وسائقٍ أرعن»، كما وصف المدينة بأنها أفادت من موقعها الجغرافي لتجعل منها مدينة سياحية تقدم خدمات قليلة الثمن، ما اكسبها انتعاشاً تجارياً بالإضافة إلى إفادتها من المواصلات النهرية، فهي إذا «فينيسيا الشرق». كما رأى أنّ قصور الملوك يغلب عليها التأثيرات الصينية والهندية، ما أعطى للمدينة طابعها المميز. هناك أيضاً وصف لموكب تقليدي ملكي في أحد الأنهر، إلا أنّه لحظ أنّ كل تلك العظمة المطعّمة بالذهب لم تستطع التغطية على الفقر المحيط في مشهد الفلاحين المحيط بالنهر. هناك وصفٌ ساخر للخدمات «السياحية التي تقدّم للوجود الأميركي في جنوب شرق آسيا».
وصل كنفاني إلى الهند من بوابة عاصمتها الشرقية، كلكتا ، فيما «رائحة الحرب حيث النزاع مع الباكستان ما زالت حاضرة»، ومنتظراً الصباح لمشاهدة المدينة التي تُعتبر الأكثر ازدحاماً في العالم. تساءل كنفاني عن «كم ومعنى الفقر وهل نعرفه؟ والرعب المتأتي من كل ذلك؟». ولشرح صعوبة الوضع حينها، أوضح أنّ في كلكتا وحدها 16 ألف متسول خلال نقاش بعض الأرقام مع رئيس حكومة البنغال الذي ذكر حجم مشكلة الفقر والكثافة السكانية ومتوسط الدخل، ما أدخل كنفاني في سجال مقارن بين مستويات الدخل هناك مع مستوى دخل العامل اللبناني. كما أوضح أنّ السباق التي تجريه الهند ليس مع الصين، لكن مع الزمن. فهو وحده الكفيل بتأكيد صحة خياراتها. من هنا دور كلكتا كعاصمة للصناعة الهندية حيث وضعت الهند آمالها. لاحقاً، زار كنفاني مصانع القاطرات ومزارع الفولاذ كدليل على استطاعة الهند - بعد الاستقلال - تحويل مصانع الأسلحة التي أقامها الاستعمار البريطاني إلى مصانع للقاطرات والباصات للتغلب على المسافات الشاسعة بين أطراف الهند ومقاطعاتها. أشار كنفاني هنا إلى أنّ كلا المصنَعين هما دلالة على «قدرة الدول المتخلفة الصناعية، ودحض لكل ادّعاءات الاستعمار ورفع المستوى الحياتي للعامل الإنسانية». كما أضاف لاحقاً بأن «المستعمرات الصناعية التي رأيتها، المعزولة في أعماق الريف، هي نموذج ممتاز بما هي أداة من أدوات التحويل الشامل، الجذري والمصيري في حياة بلاد متخلِّفة». ناقش كنفاني هنا دور الدولة، حيث لا يخفي تكتمه حول ضرورة الاهتمام بالصناعة بينما «المسألة الفلاحية التي تبدو في الهند مهملة - هي مفتاح آسيا - كما قال ماو تسي تونغ». استكمل كنفاني هذا النقاش في حواره مع الأديب الهندي بانرجي حول التغيير الاجتماعي والتقاليد، فأوضح له أنَّ «روح الهند هي عدم الاعتداء على جيرانها»، وهذا ما جعل غاندي زعيمها، ونهرو في ما بعد. ومن النقاشات المتعددة، يصل كنفاني إلى أنّ مفهوم الاشتراكية في الهند ليست قضية إنتاج فحسب بل أكثر من ذاك هي مسألة وقت وكيفية الوصول إليها من ناحية اختيار أفضل الحلول الممكنة.
لفت كنفاني عند وصوله إلى بومباي، العاصمة الاقتصادية للغرب الهندي، أن التصنيع حصل فيها بعد الاستقلال، فهنا عالم السواري الأنيق وهي مركز الصناعة الخفيفة بعكس كلكتا ذات الصناعة الثقيلة، ولكنّها أيضاً «مركز مكثّف للتناقض المرير الذي تعيشه الهند»، والملكيّة الخاصة للأرض، بينما ربع السكان لا يملكون أرضاً. وخلال مقابلته وزيرة الأعلام الهندي في حكومة شاستري حينها، أنديرا غاندي، أدار نقاشاً معها حول الديموقراطية وحقوق الانتخاب لطبقة المنبوذين التي تشكل خُمس سكان الهند، بينما يزداد عدد سكان الهند سنوياً حوالى عشرة ملايين شخص جديد (عدد سكان العراق وسوريا بحسب كنفاني). وتساءل حينها كيف يمكن حلّ هذه المعضلة بالأسلوب الهندي بينما حلَّها اقتصادي. تساءل كنفاني أيضاً بأنّه منذ 17 سنة اقترع مئة مليون إنسان في الهند كانوا لا يملكون شبر أرض واحدة على أمل جعل حياتهم أفضل، وهم إلى الآن ما زالوا على الحالة نفسها، بينما رأت غاندي أنّ الزمن وحده هو الكفيل بحل هذه المشكلة.
تجلّت سُخرية كنفاني خلال رحلته بالطائرة إلى نيودلهي في تفتيشه عن «صاحب» الذي عرَّفَه بأنه «المستشرق المغرور والمتعالي عن الثقافة المحلية» لتقطيع الوقت. وفي العاصمة، أجاد التقاط سماتها المدينية منذ اللحظة الأولى لتجواله فيها. وصف وسطها بِـ «مجرد بلاط قيصري فيه استعراض بارز لعضلات السلطة»، من ناحية الشوارع العريضة والقصور من الآجر الأحمر «وحدائق وقباب وأعلام وأقواس من ذات الخصر المستدق التي تعلن الطابع الهندي إعلاناً لا يخطئ، كما هي مزيج لعدد من التأثيرات الآسيوية والأوروبية، لكن كل ذلك لا يلغي الشخصية الهندية»، بينما تبدو دلهي القديمة، حيث ترك المستعمر البريطاني قيود البيروقراطية الكسولة، ما يمنع تقدمها.
طرح كنفاني السؤال الثقافي أمام ضريحي غاندي ونهرو حول اللغة والثقافة الإنكليزية في الهند، ومن ثمَّ قدرة حزب المؤتمر على تقديم هند مستقلّة حقاً حيث يتضح فيها الفرق عن هندٍ إنكليزية ضمن الشروط التي كانت ولا تزال تعيشها الهند. كما أتتْ قضية كشمير في النقاش الذي جرى بين كنفاني وذاكر حسين نائب رئيس الجمهورية الهندية حينها والتي دفع ثمنها رئيس وزراء الهند سأشتري حياته بعد تسوية قضيتها. وكان السؤال حينها عن موافقة الهند على قيام دولة باكستان على أساس ديني، حيث يذكّره ذاكر بأن الهند إلى الآن تحوي ستين مليون مسلمٍ أي أكثر من باكستان. يتبع ذلك نقاش حول الحدود مع الصين، كما تطرّقَ لاحقاً إلى العلاقات مع الكيان الصهيوني والتناقض الهندي في قضية الموقف من الكيانات التي تقوم على «تحويل الدين إلى قومية».
وصل إلى الصين عن طريق هونغ كونغ التي وصفها بـ «فترينة العالم»


مشدوهاً ومأسوراً وقف كنفاني بعد رحلةٍ بالسيارة لساعاتٍ ثلاث تخللها «شرب الشاي ومراقبة كوبرا ترقص على أنغام مزمار له كرش مع رقص الدببة السوداء المرعبة وألاعيب القردة المغيظة، والأحناش العملاقة تلتف بأجسادها على أجسام الحواة»، أمام ضريح التاج محل الذي وصف دقّة بنائه بأنّه «التناسق بذاته»، حيث «تردّدات صوت المؤذّن كأنَّها تبكي الإمبراطورة»، شارحاً عن نهاية الإمبراطور العاشق الذي أفلس ميزانية الدولة، فتمّ خلعه ودفن قرب حبيبته لعدم توافر الأموال لبناء ضريح له. إلا أنّ الدرس الآخر برأينا هو الانبهار أمام جمال المعمار العربي الإسلامي. فجيوشَ المغول ـــ بعد اكتساحها للعراق وسوريا والدمار الذي خلفته في المدن العربية كبغداد وحلب والشام ـــ عادت لاحقاً إلى تبنّي الدين الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية لتُقيم إمبراطوريتها بين أفغانستان وشمال الهند التي استمرّت مئتي سنة، وليبقى التاج محل وغيره شاهداً على ذلك. أشار كنفاني إلى أنّهم «أتوا من أواسط آسيا يحملون معهم سمعتهم البربرية لكنهم تركوا وراءهم في الهند أجمل الآثار التي لم تستطع أن تكون إلا مزيجاً متعادلاً من الفن الإسلامي الذي كان شديد الإعجاز والازدهار في إيران والرشاقة الهندية الوقورة النابعة من قلب الأرض والتراث»، مذكّراً بأن أهمّ جوهرة في تاج ملكة بريطانيا قد انتُزعتْ من ضريح ملكة «التاج محل»، بالإضافة إلى سبائك الذهب من قبَّتها.
وختاماً، نود لفت النظر، إلى أنّه في الوقت الذي تدخل فيه أوروبا حرباً جديدة لا يعلم أحد كيف ستنتهي، كما تتم عسكرة النزاعات من جديد، فإنّ كتابة غسان كنفاني تلك «الثقافة الشاملة» لهي دليلٌ على شخصيتِه، سخريتِه السوداء، ثقافته وأخلاقِه المشرقيَّة وحزنِه الفلسطيني. في ذكرى اغتياله الخمسين مع ابنة أخته لميس نجم، فإنّ غسان كنفاني حاضرٌ «بما أوتي من لغته»، عبر عاطفته، أدبه، لغته وكتابته الشاملة.
ويا أيّها الناس اقرؤوا غسان كنفاني مرتين: مرّة لأنّه وثَّق التاريخ الفلسطيني الحديث عبر دراساته وقصصه، قصص الناس العاديين الذين واجهوا المشروع الاستعماري البريطاني ومن ثمّ الصهيوني على أرض فلسطين. ومرّة ثانية لأنّه ورفاقه حاولوا فتح كوة باتجاه المستقبل، حيث ما زال دمه المسفوك على سفح تلّة الحازميّة يدُق.. يدُق.. يدُق.

* كاتبة فلسطينيّة