في «عالم بلا قيادة ـــ كل أمة لنفسها الرابحون والخاسرون في عالم المجموعة الصفرية» (ترجمة فاطمة الذهبي ـ دار الفارابي ــ الطبعة الأولى ـ 2014)، يطرح عالم السياسة الأميركي آيان بريمر فرضية مفادها أنّ التحولات والأزمات في النظام الاقتصادي العالمي أدت إلى نشوء فراغ قيادي، فلا توجد القوة المفردة أو تحالف القوى المستعد لتبني التحديات العولمية.يرى بريمر (1969) الباحث المختص في السياسة الخارجية الأميركية، وأستاذ البحث العولمي في «جامعة نيويورك» الذي صدر كتابه عام 2012 أنّ العالم يواجه مأزقاً على مستوى إدارة الاقتصاد العالمي؛ فالأزمة المالية التي شهدها عام 2008 وما تبعها من تداعيات اقتصادية بلورت للمرة الأولى خلال سبعة عقود نهاية النظام العالمي القائم على التفرد الأميركي في قيادة الاقتصاد المعولم.

لا يحدد المؤلّف ما يقصده بمصطلح المجموعة الصفرية. يبدو التعريف مطاطاً يفتقد إلى الدقة العلمية، فلا يتمكن القارئ من فهمه على مدار فصول الكتاب. يؤكد رئيس ومؤسس «الجمعية الأوروبية الآسيوية» أنّ القيم السياسية والاقتصادية المختلفة لمجموعة العشرين أنتجت كارثة عولمية مع المطالب الملحة للأزمة المالية. يبين أنّ العالم سيصبح سلسلة من المجتمعات المبوبة نظراً إلى أقلمة القوة لا عولمتها.
لا يندرج الكتاب في إطار الدراسات الاستشرافية التي تعاين تخبط الاقتصاد الرأسمالي وأزماته الدورية واحتمالاته المستقبلية، بل يقدّم قراءة تحليلية للسلبيات الناجمة عنه. بعض الخلاصات التي يخرج بها بريمر يشوبها التناقض. يتحدث حيناً عن إمكان أفول العصر الأميركي الياباني الذي قاد قبل جيل ديمقراطيات السوق الحرة التي دفعت الاقتصاد العالمي نحو الأمام، مرجحاً ظهور بؤر اقتصادية جديدة منافسة للعملاق الأميركي تحتّم قيادة عولمية اقتصادية متعدّدة الأقطاب لكنها فراغية، وحيناً آخر يعتبر أنّ الاقتصاد العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة لن يخرجها من دائرة القيادة الأحادية.

تنافس إقليمي
ثلاثي الأضلاع
بين السعودية
وتركيا وإيران

يشير بريمر إلى الخلافات وتباعد الأولويات الاقتصادية والسياسية بين مجموعة الدول الثماني، ومجموعة العشرين التي تأسست بسبب الأزمات المالية في التسعينيات من القرن المنصرم. هذه المنظمات الدولية لا تملك اليوم القوة القادرة على ضبط اقتصاد السوق المعولم. حتى أنّ بروز قوى اقتصادية جديدة وفي طليعتها الصين و«متبارو السوق الحديثو الظهور» غير قادرة على القيادة، ما يعني أننا على مشارف كل أمة لنفسها؛ أمم ناهضة على انقاض نظام اقتصادي عولمي سابق.
يفسر بريمر جوهر المجموعة الصفرية: ذلك النظام الاقتصادي الأكثر فوضوية، يفتقد للتعاون والتنسيق الدولي، مجبر على الدبلوماسية القسرية. يعرض بإيجاز عملية التحول الاقتصادي بعد صعود القوة الأميركية والمؤسسات التي هيمن عليها الغرب إثر الحرب العالمية الثانية وما نتج منها من اضطرابات سياسية واقتصادية في السنوات الأخيرة.
يتناول الفصل الثالث المجموعة الصفرية في العالم حولنا، ويركّز على تأثيرها في ثلاثة مجالات: المعايير العولمية، والمضامين للضروريات الأساسية جداً، الهواء والطعام والماء.
لا ينحصر تحليل بريمر في تحليل بنية الاقتصاد العولمي ومأزقه وتداعياته. يدرس انعكاسات السياسي على الاقتصادي، موضحاً أن عالم المجموعة الصفرية سيجعل الشرق الأوسط وآسيا أكثر اضطراباً من أي منطقة أخرى. الثورات التي أطاحت بالحكومات في تونس ومصر وليبيا ستواصل عملها أثناء تقليل الولايات المتحدة حجم حضورها في المنطقة، وسط تنافس إقليمي ثلاثي الاضلاع بين السعودية وتركيا وإيران.
على مستوى آسيا، ثمة مخاطر وشيكة، فهي ساحة للقوى الصاعدة والنقاط الساخنة والصراعات المحتملة، وهي مهمة لقوة الاقتصاد العولمي. كوريا الشمالية قد تنهار خالقة أزمة اللاجئين ومشروع التوحيد ثانية المكلف جداً مع كوريا الجنوبية. يخلص إلى أنّ لآسيا دولاً قوية عدة، لكن لا يوجد ما يكفي من التعاون بينها. الصين ترغب في التحول إلى قوة إقليمية مهيمنة ولكن الهند كبيرة جداً ولا يمكنها قبول الدور الثانوي، وتبقى اليابان أحد أثرى بلدان العالم وأكثرها نفوذاً. كل هذا يرسخ حال التنافس ولا ينتج قيادة موحدة مع التراجع التدريجي لرأسية الاقتصاد العولمي الذي سيسمح بإعادة الترتيب للسياسات الدولية في آسيا والشرق الأوسط.
يتطرق بريمر إلى رابحي العصر وخاسريه. متبارو الشرق الأوسط الأساسيون الذين يدركون حجم التغيرات في السياسة الخارجية الأميركية، لم يعودوا قادرين على الاعتماد على الولايات المتحدة لدعم الاستقرار الإقليمي، بعدما أصبحت أميركا مفرطة الامتداد على نحو خطر في السنوات الأخيرة، وتالياً أعباء المنطقة الثقيلة ستجبرها على تعميق روابطها مع الشركاء التجاريين والاستثماريين الآخرين.
في تحديد خريطة الرابحين والخاسرين في عالم المجموعة الصفرية، ضمن البيئة الدولية المرنة، يطرح الكاتب احتمال صعود فاعلين جدد مثل إندونيسيا والبرازيل، ثامن أكبر اقتصاد عالمي. تكيفت هذه الدول وغيرها، وأفادت من عمليات العولمة التي يقودها الغرب. أما الخاسرون، فهم المؤسسات والمنظمات التي لم تعد تعكس العالم الذي خلقت لترقيته وحمايته، وقد أطلق عليها بريمر «الحُكام»، قاصداً بذلك منظمة حلف شمال الأطلسي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. أين هي الولايات المتحدة والصين من احتمالات الربح والخسارة؟ يقول الكاتب إنّ بكين ليست في مركز جيد للربح بالضرورة، مثلما أن واشنطن ليست في حال خسارة في عالم المجموعة الصفرية.
يضع بريمر أربعة سيناريوات ستحدد مستقبل النظام الدولي: الأول هو القيادة الثنائية بين الولايات المتحدة والصين وهو معرّض للفشل نتيجة التناقضين بين الدولتين. والثاني هو نشوب حرب باردة بين أميركا والدراغون الأحمر (الصين) لكنه غير وارد، فالعلاقات الأميركية _ الصينية تستند إلى ما يسميه «الاتكال المتبادل» ويصعب على الجانبين تدمير الآخر من دون تدمير نفسه، فالولايات المتحدة تحتاج إلى الصين لمواصلة تمويل الدين الأميركي، وتحتاج الصين إلى ضمان تمكّن الأميركيين من التسديد لها. أما السيناريو الثالث، فيبشر بصعود قيادات إقليمية؛ وأخيراً احتمال تشظي النظام الدولي.