وجّهت «جمعيّة الفكر الحضاري اللبناني» تحيّةً إلى الفنان الراحل سمير مولر (1959-2013) من خلال معرض استعادي لأعماله في «مركز سليم سعد الثقافي الدوليّ» في عين زحلتا. فنان لم يأخذ حقّه، مع أنّه كان الأكثر موهبةً في مجال الخزفيّات المجسّمة، والمسطّحة (الصحون والصواني) المفعمة بالاتجاه التزيينيّ. جمع الراحل الخبرة والعفويّة، الإتقان والبساطة، الابتكار والصنعة. أشكال مزدانة بالزخرفات الهندسيّة والنباتيّة بمادّة الطين تدخلنا عالماً أليفاً، مركّباً، يستنطق الطين بتعبير يداني الموسيقى والشعر، مرتقياً بالمادّي إلى الروحاني الجمالي.

من تشكيل الأواني والأباريق والصحون والمزهريّات، تحوّل مولر إلى اللوحة الخزفيّة التي تجرّد المنظر الطبيعيّ والشخوص الراقصة على مزهريّات كرويّة والظلال البشريّة في شوارع بيروت. حرفيّة عالية، دقيقة، ‏متناغمة، تجديديّة قادته إلى «متحف سرسق» حيث عرضت أعماله وبعضها بمادّة السيراميك. علماً بأنّ فنّ الخزفيّات ليس فناً فحسب، بل تاريخ وعلم وحرفة ومهارة، وهو قديم قدم البشريّة مع شروع الإنسان بصنع الأواني الفخارية وأدوات الأكل وتعبئة الماء (الجرار) التي لطالما تميّزت بالزخرفات الخطيّة والهندسيّة ذات الملمح الجماليّ المتفنّن. كما أنّ صناعة الخزفيّات صعبة ومعقّدة، إذ تحتاج إلى أفران خاصة ذات درجات حرارة تستلزم خبرةً ومعايير.
ورث مولر هذه الحرفة عن جدّه يوهان المتحدّر من أصول جرمانيّة سويسريّة، ومن والده جورج الذي كان لديه مشغله في منطقة الكحّالة. صمّم ‏على حفظ حرفة جدّه ووالده من الاندثار، مقتدياً أسلوبهما وأشكالهما الزخرفيّة، ومتجاوزاً في الوقت نفسه نمطيّة الحرفة وتقليديّتها، كاسراً السائد والعادي، ماضياً نحو احتراف أكثر تجديداً وإبداعاً، سواء لناحية إدخال الشخوص في حالات متنوّعة، أو لناحية التكوين الدرامي الذي يثير اهتمام الناظر إلى أعماله وتفاعله معها إلى درجة الإدهاش والإبهار. تمكّن مولر من منح هذا الفنّ طاقة إبداعيّة إضافيّة، وتصنّف تجربته بين التجارب الرائدة في فنّ الخزف اللبناني.
الطين الصلصالي من خواص الأعمال الفنية التي استخدمها مولر لصنع منحوتاته الخزفية الفنية. اجتهد ليعطي بعضاً من هذا الفن حقّه ضمن أنواع الفنون التشكيلية، ويثبت أنّ الفخار يسعه أن يكون مادة تشكيل وإبداع، والبرهان تلك المنحوتات وتماثيل السيراميك.
سُئل مولر مرةً عن أسلوبه، فأجاب بأنّه بسيط رغم اختباراته المتعدّدة على مادّة الطين، واستخدام اللون، بلوغاً إلى آفاق تعبيريّة لا حدود لها، إذ يحوّل الطين إلى قطعة فنيّة قيّمة ذات جماليّة فائقة حتّى لو استخدمت كقطعة فنية منزليّة، وتفاعله اليومي مع هذه المادّة اللزجة، الطريّة، وهبته راحةً نفسيّةً.

سامي مولر. من دون عنوان (غير مؤرخة ـــ طين مزجج محروق ـــ 30 × 28 سنتم ، تصوير إيلي أبو حنّا ـ بغذن من متحف سرسق)

منذ نهاية السبعينيات، انشغل سمير مولر بهذا الفن، وكان آنذاك في تولوز حيث درس الفنون التشكيليّة، قبل أن يلتقي في نهاية الثمانينيّات فنّان السيراميك جان هاري، ويطوّر معه تقنيات التزيين الخزفيّ، التي استعان بها للنسخات البدائيّة في الصحون الأرابسكية. تميّزت أعماله آنذاك بالأشكال الدائريّة والألوان الطينيّة. كان طموحه أن يبلغ درجة عالية من النقاء في أدوات الطهو والأعمال الحساسة جداً. طوّر تلك التقنيات كاسراً جمود التكوينات و«برقشاتها» بحركة جليّة، معتبراً «أنّ منطق كلّ فنّان خزفيّ هو منطق دائريّ». ثمّ تحوّل في مرحلة ثانية إلى الأشكال المنبسطة أو البيضاويّة، ليغدو الشكل قاعدة ومحملاً للتزيين.
‏تبدو لنا أعمال مولر اليوم حديثة، حيّة، رغم قِدَمها. الحرفيّة عمادُ جِدّتها حركةً ولوناً وتكويناً. ألوانه الترابيّة تمتّن أصالتها وحداثتها في الوقت عينه. الارتباط بلون الأرض يثبت ديمومتها. كان مولر حرفياً صبوراً جلوداً، يشتغل أعماله بتؤدة وهدوء ويذكّرنا بمفهوم باشلار للفن الخزفيّ أو الفخّاري. من خلال إطالة «دعك» الطين وتشكيله وتسخينه، إنّما يكون الفنّان في بحث دؤوب عن مصدر نشأة هذا الطين لتوليده من جديد. اشتغال مولر بمادّة الطين لقّنه المرونة والهدوء والتواضع، فضلاً عن الاطمئنان الذي نعم به طوال حياته الفنية.
بعض أعمال مولر طين على الكانفاس، فالطين هو اللون، والفرشاة هي أصابع الفنان. وفي أعماله المشغولة بمادة السيراميك نتوءات مجرّدة وشخوص راقصة ومزهريّات كرويّة تحاكي كرويّة كوكبنا. لا بد من الإشارة هنا إلى أنّ مولر درّس فن السيراميك بين عامَي 1979 و2013 في «جامعة الروح القدس الكسليك»، وفي «أكاديمية الفنون الجميلة- ألبا» في بيروت، وفي «جامعة سيدة اللويزة». كما شارك في العديد من المعارض كـ «صالون الخريف» في «متحف سرسق» (نال جائزة المتحف عام 2009)، وفي «بينالي الشارقة الدولي للفنون»، وفي «معرض بيروت للفنون الزخرفيّة»، وفي «بينالي القاهرة الدولي للخزف». وأقام معرضاً منفرداً يتيماً عام 1997.
قبل رحيله، صرّح مولر بأنّ الفن الزخرفيّ ‏فقد أصالته وصدقيّته في لبنان. وعلى الصعيد الشخصي، لم يحسن يوماً «تسويق» نفسه وأعماله، إذ تجاوزت همومه الإبداعيّة أيّ همّ آخر، وظلّت يداه مغمّستين بطين الأرض التي أحبّ، أرض لبنان التي اتحد جسده بطينها، أي بالمادة الأولى لوجودنا البشريّ العائد إلى مادّة تكوينه الأصلية.