في نيسان (أبريل) الماضي، أعلنت «نتفليكس» خسارة 200 ألف مشترك في كل أنحاء العالم في الربع الأوّل من العام الحالي، مقارنة بنهاية 2021، للمرّة الأولى منذ عشر سنوات، فيما سجّلت أسهمها تراجعاً في «وول ستريت» أيضاً. أسباب الأزمة التي تعانيها منصّة البثّ التدفّقي الأميركية كثيرة، ولعلّ أبرزها صعوبة الحصول على مشتركين جدد في كل مناطق العالم بالإضافة إلى تعليق الخدمة في روسيا، فيما أعطت جائحة كورونا صورة ضبابية من خلال تضخيم نموّها في عام 2020 ما دفعها إلى الاعتقاد بأنّ معظم النموّ المتباطئ عام 2021 كان بسبب تفشّي كوفيد-19. جاء ذلك بعدما توقّعت الشبكة التي تتخذ من كاليفورنيا مقرّاً لها أن تكسب 2.5 مليون مشترك إضافي، كما أنّ المحللين توقعوا عدداً أكبر حتى، لكنّها خسرت بدلاً من ذلك بعضاً منهم، ما أدى إلى انخفاض مجموع الاشتراكات إلى 221.64 مليوناً على امتداد العالم. يومها، قال محلّلون، من بينهم روس بينيس من «إي ماركتر»، إنّ خسارة «نتفليكس» مشتركين أمر مهمّ جداً بالنسبة إلى شركة كانت تكسب مشتركين بشكل ثابت على مدى عقد. وأضاف: «مع انخفاض الاشتراكات وضعف آفاق النمو، سيتعيّن على المجموعة الاعتماد بشكل أكبر على الخدمات الثانوية مثل ألعاب الفيديو أو المنتجات المشتقة في محاولة لزيادة عائداتها».
تُرجمت شعبية Drive to Survive في أعداد الموجودين في مدرّجات الحلبات

لا شكّ في أنّ المنصّة التي تحارب مشاركة كلمات السرّ تعمل على هذين الخطّين، غير أنّها تستثمر بشكل ملحوظ في مجال الرياضة أيضاً.
لطالما كانت الرياضة شريان الحياة للتلفزيون ولكنها تخنقه أيضاً. وحالياً، يبدو أنّ شركات التكنولوجيا الكبرى تتبع كتاب قواعد لعب مشابهاً.
ازدهرت الرياضة والتلفزيون معاً. اليوم، سيتشكّل مستقبلنا الترفيهي من خلال ما إذا كان البثّ التدفّقي والرياضة يمكن أن يكرّرا تلك الشراكة السعيدة في الغالب.
الأنباء الواردة من «أمازون» و«آبل» و«يوتيوب» (تابع لـ «غوغل») تفيد بوجود نيّة لدى هذه الجهات لدفع مليارات الدولارات من أجل الاستحواذ على مباريات رياضات ذات شعبية واسعة بدلاً من الشاشة الصغيرة، في إطار سعيها لاستقطاب جمهور جديد في ظلّ احتدام الصراع بين منصّات الـ «ستريمينغ» كافة. حتى لو كانت النتيجة خسارة بعض الأموال.
في الولايات المتحدة مثلاً، تحظى الرياضة على التلفزيون بمشاهدين أكثر بكثير من على الإنترنت. إنه أمر محيّر في الواقع. مراسل «نيويورك تايمز» الرياضي، كيفن دريبر، يؤكد أنّه عندما قام فريق الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية ببث إحدى المباريات تزامناً بين شبكة تلفزيون «فوكس» وعبر خدمة البثّ التدفقي «أمازون برايم»، شوهدت على التلفزيون بنسبة كبرى بمرّات عدّة. أما مباراة البطولة السنوية للرابطة الوطنية لكرة القدم الأميركية (سوبر بول)، فقد شاهدها حوالي 90% من المتابعين على التلفزيون التقليدي بدلاً من الشبكة العنكبوتية. وهذا ما يشكّل معضلة للمديرين التنفيذيين الرياضيين. فهم من جهة مسرورون لأنّ «آبل» و«أمازون» و«غوغل» تغدق عليهم الأموال لبثّ محتوى رياضي، غير أنّهم في الوقت نفسه قلقون من أنّ خدمات البثّ قد تقلل من نسبة مشاهدة المباريات، ما قد يجعل بطولات الدوري والفرق واللاعبين أقل قيمة بكثير.
وإلى حين تبلور الصورة على هذا الصعيد، يبدو أنّ «نتفليكس» التي تحاول الخروج من معضلتها الحالية تعمل على تماس مع الرياضة لكن من باب الترفيه. هكذا، تخصص مشاهديها بإنتاجات أصلية تأمل من خلالها في التفرّد عن منافسيها وتقديم مواد جذّابة.
من هذا المنطلق، كشفت المنصة التي بدأت رحلتها بتأجير أقراص الـ DVD الستار أخيراً عن وثائقي «فيغو: الصفقة التي غيّرت كرة القدم» (104 د) الذي يسلّط الضوء على إحدى أكثر الصفقات إثارة للجدل في تاريخ الساحرة المستديرة. عاصفة، محورها اللاعب البرتغالي لويس فيغو (1972).
لكن أنجح خطوات «نتفليكس» لغاية الآن هي سلسلة Drive to Survive (إنتاج جيمس غاي ــ ريس وبول مارتين لصالح «بوكس فيلمز») التي أُطلق موسمها الأوّل في عام 2018 بالتعاون مع «فورمولا 1» لإلقاء نظرة من وراء الكواليس على السائقين والسباقات في بطولة العالم الأهم الخاصة بالمحرّكات والسرعة.
وفي الوقت الذي أُعلن فيه منذ فترة وجيزة عن التحضير لجزء خامس (بدأ تصويره) وسادس، بات مؤكّداً أن «نتفليكس» نجحت من خلال هذا العمل في استقطاب جمهور جديد، أصغر سنّاً (بمعدّل 37 عاماً بعدما كان 39 في عام 2017) وتغلب عليه الإناث (40% مقارنة بـ 8% في عام 2017). حاولت المنصة جاهدةً إظهار الدراما الكامنة خلف الستار على الحلبات وفي غرف التحكّم الخاصة بالفرق الكبرى. غير أنّ محاولات توخّي الأصالة قدر الإمكان، جنحت بصنّاع هذا العمل في أحيان كثيرة صوب المبالغة.
مروحة واسعة من المعلّقين الرياضيين، من بينهم جايلز ريتشاردز من الـ «غارديان» البريطانية، يؤكّدون أن الـ «فورمولا 1» عادت إلى الظهور في الدولة التي طالما أرادت كسر حدودها المنيعة، أي الولايات المتحدة. أما العامل الرئيسي، فهو شعبية Drive to Survive الآخذة بالتنامي والتي تُرجمت على أرض الواقع أيضاً في أعداد الموجودين في مدرّجات الحلبات.
أُعلن أخيراً عن موسمَيْن جديدَيْن، بدأ تصوير أوّلهما


من جانبهم، اعترف مديرو الفرق بالدور الذي لعبه البرنامج في تقريب رياضتهم من جمهور أعرض، حتى في وقت انتقد فيه بعض السائقين، مثل ماكس فيرستابن، السلسلة على خلفية «التأثير الدرامي لبيع قصة».
شعبية Drive to Survive تجلّت أيضاً في عدد مشاهدي الموسم الرابع الذي تمكّن من الوصول إلى قائمة أفضل عشرة أعمال في 56 دولة. ومنذ ذلك الحين، يبقى نموّ الجمهور الذي يشاهد هذه الرياضة في الولايات المتحدة مطّرداً، وهو ما يطاول بشكل حاسم الفئة الأصغر سناً التي تريد الـ «فورمولا 1» جذبها. فهل سيستمرّ نجاح سلسلة «نتفليكس» على أكثر من صعيد، أم أنّ صنّاعها سيمعنون في الإفراط بالدراما؟