الممثل الكوميدي الأميركي من أصل فلسطيني مو عامر، هو بمثابة نكهة الشهر على شبكة نتفليكس، إذ يلعب الدور الرئيس في مسلسل كوميدي ميلودرامي طُرح للمشتركين في 24 الحالي، يحمل اسم «مو» (اختصاراً لمحمّد) يحكي عن تعقيدات العيش في الولايات المتحدة كفلسطيني لاجئ لم يحصل بعد على الجنسيّة الأميركيّة، إلى جانب عرضي ستاند أب كوميدي حول إعداد الحمص، ومخاطر السفر بوثائق اللاجئين، والمعاني (العميقة) لكلمات السّباب الشوارعي في اللغة العربية. وهو يعمل الآن على فيلم جديد في هوليوود أيضاً بعنوان «بلاك آدم» في أجواء الأبطال الخارقين مع أسماء معروفة. وبالطبع، فإن منصّة نتفليكس (كما أخواتها الأميركيّات الأُخر) مُنْتِجة لثقافة تتنفّس الإمبراطوريّة، وتنطق بفلسفتها تجاه العالم، وتحكمها دوماً نظرة نخبتها للأعراق والمجموعات الدينية والثقافيّة. ولذا عندما تتحدّث نتفليكس عن المسلمين أو العرب أو بالذات فلسطين، «أحسّس مسدّسي».

رغم موهبته البارزة، فإنّ مو يسترزق من العزف على النّغم الغربي النشاز

قبل مسلسل «مو»، فإنّ مو عامر موهبة كوميديّة حقيقيّة، نجح (تجاريّاً) عبر اللّعب على تسطيحات العقل الأميركي الأبيض لمعالم شكليّة من الثقافة الإسلاميّة-العربيّة-الفلسطينية لانتزاع ضحكات جمهور من الأميركيين البيض (الأوروأميركيين إذا شئت) - الذين كانت لهم تفاعلات عرضيّة مع جوانب من تلك الثقافة الشرقيّة من بوابة العدوانات العسكريّة الأميركية المتكررة (أفغانستان، العراق، ليبيا، سوريا وأيضاً حدث 11 سبتمبر)، كما الجاليات العربيّة والفلسطينية من الأجيال الثانية والثالثة، التي بُرمجت عقليات السّواد الأعم من أبنائها تلقائياً بحكم العيش الماديّ في ثنائيّة ثقافيّة هجينة قلقة لا تستقرّ على مكان بين جانبيها الأميركي والعربيّ بكل تعقيداتهما وموروثاتهما.
وللحقيقة فإنّ مو، وقبل المسلسل، بنى نجاحه أساساً عندما خدم كأداة ترفيه للجنود الأميركيين الغزاة في قواعدهم في أوروبا والشرق الأوسط (بما في ذلك العراق المحتلّ)، فقدّم لهم قفشات ترفيه شرق أوسطيّة تناسب خبرتهم المنمّطة عن أهل المشرق. ولذا، فإن مادته دائماً معنيّة بالرموز الشكليّة التي قد يصادفها جندي أميركي آخر يمشي في شوارع الفلوجة أو الكويت أو القامشلي، ومن النوع المعلّب المناسب للعرض أميركيّاً، تماماً على نسق الأعمال المخصّصة لتناول الصور النمطية التقليديّة للثقافات الفرعية في الإنتاجات الأميركية: الإيطاليون، يهود نيويورك، القوّادون وتجار المخدرات السود، وهكذا. جدليّة ربّما، لكنها تثير الضحك أيضاً ولا تتسبب في مشاكل للسادة في واشنطن.
هذه المادة الخام ذاتها هي أساس مسلسل «مو» (ثماني حلقات من نصف ساعات تلفزيونيّة)، حيث يلعب مو عامر شخصية محمّد النجّار من اللاجئين الفلسطينيين الذين انتهوا إلى الولايات المتحدة بعد غزو الكويت بداية التسعينيات، يعول بدون تعليم ولا مهنة ولا جنسيّة، ويعيش في أسرة صغيرة تضم والدته يسرى النجار (فرح بسيسو) وشقيقه الأصغر سمير المصاب بالتوحد (عمر علبة). في صراعه مع الحياة اليوميّة، يتعاطى مع أشخاص من خلفيات مختلفة: صديقته المكسيكيّة ماريا (تيريزا رويز)، وصديقه الأفروأميركي (يلعب دوره مغني الراب توبي نويغوي)، كما بعض أبناء الجالية العربيّة (بمن فيهم المصري المتأمرك رامي يوسف، وشريك مو عامر في كتابة هذا المسلسل، وغيره).
تجري أحداث العمل على خلفيّة المشهد الحضري لمدينة هيوستن في ولاية تكساس الأميركيّة ومزاجها الثقافيّ الغنيّ بتنوعه كنقطة تلاق بين الأميركي الأبيض والمكسيكي والأفروأميركي، إضافة إلى الحضور الملموس لجالية عربيّة كبيرة. ويتنقل مو بسلالة بين اللغات الإنكليزية الأميركيّة، والإسبانيّة والعربيّة ليعكس نشأته في المدينة الشهيرة، ويسرد في أجواء تهكميّة هزليّة لا تخلو من تعقيدات ميلودراميّة، حكايته الشخصيّة عندما انتقل أهله إليها بعد حرب الكويت، ووفاة والده بعد وقت وجيز، ومن ثمّ انتظاره عشرين عاماً للحصول على الجنسية الأميركية (حصل عليها بالفعل عام 2009).
يغرف المسلسل من سلسلة تناقضات إثنية وثقافيّة للسخريّة من المواقف التي تنشأ عند احتكاك مكوّنات المجتمع في «بابل/ هيوستن»، مثل علاقة مو المعقدّة مع ماريا بسبب استياء والدته الفلسطينية من أنها ليست «بنت بلد». لكن مو كما رسول محبة وتلاق، يضيء على الاختلافات كي يبني بلا كلل جسور تواصل وعبور نحو الأوروأميركيين والأفروأميركيين والمكسيكيين. أمّا نقده الجذريّ، فموجه حصراً إلى البيروقراطيّة الأميركيّة في إدارتها لمعاملات الهجرة والجنسيّة، وإلى العراقيين الذين احتلوا الكويت ودمّروا الجنّة الفلسطينية الذهبيّة الموهومة فيها، بينما لا تكاد - رغم الثيمات المتكررة عن فلسطين - تعرف من المتسبب في هجرة الفلسطينيين أصلاً من أرضهم المحتلة.
في الشأن الفلسطيني تحديداً، وبغير الطرح الكاريكاتوري المسطّح عن مركزيّة زيت الزيتون في الثقافة الشعبيّة، فإن مو لا يريد العودة إلى حيفا، ويرضى بدور السائح إلى بورين في الضفة الغربيّة (المحتلّة) – وطن لجوء أهله الأوّل بعد حرب تأسيس الكيان (1948) – وتتقاطع أبعد أحلامه الوطنيّة لدولة للفلسطينيين على حدود 1967 مع قادة حماس والسلطة الفلسطينيّة.
هزالة الخطاب السياسي للمادة الكوميدية التي يقدّمها مو عامر وضعف بنيتها السرديّة تعوّضهما فقط معالجته لهموم هويّة حقيقيّة تلمس حياة وأرواح وسايكولوجيّات الأجيال الثانية من المهاجرين الفلسطينيين (والعرب عموماً) ومن بعدهم ممن خرجت فلسطين بالكامل من واقعهم، وانتقلت إلى حيّز التاريخ الشفوي المتداول، وفضاء الإنترنت. هؤلاء يعانون بالفعل من مستويات متفاوتة من أزمات الهويّة (الدينية والعرقيّة والثقافيّة والقوميّة)، وصعوبات ملموسة للاندماج في مجتمعات شديدة العنصريّة كُيّفت الغالبيّة البيضاء فيها على التعامل مع ذوي ألوان البشرة المغايرة بفوقيّة واستعلاء وقرف ثقافي، مهما حاول هؤلاء المساكين تذويب أنفسهم ليمروا من بوابة القبول كبشر ومواطنين. وتتضاعف معاناة هذه الفئة مع اندراجها التلقائي اقتصادياً واجتماعياً مع الطبقات الدنيا، خارج النّخب الغربيّة، ما لا يترك أمام الأفراد فرصاً كثيرة للترقي ويضاعف إحساسهم بالقلق الوجودي. ومو كنموذج، يهرب من واقعه القاسي إلى تناول مشروب له تأثير مسكر ثقيل يتناوله الفقراء، يُصنع بمزج الكوديين والصودا ودواء السعال. وبعد أن تُغلق أبواب الوظائف المنتظمة في وجهه، يلجأ إلى التجارة بالمسروقات من صندوق سيارته لأنها «الشيء الوحيد الذي يمكنني القيام به دون الحاجة إلى وثائق إقامة».
يتنقل مو في المسلسل بين عدد من القصص المفكّكة والصخب المفتعل والاستطرادات غير اللازمة في كل مكان من التشابكات مع رجال العصابات المحليين وأصحاب نوادي التعري إلى التواري من وكلاء إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك، مع كثير من الوقت الضائع على قصص جانبيّة لماريا وسمير وحتى طريقة تحضير الزيت في المنزل. وفي هذا كلّه قليل من الكوميديا الجيّدة. بل إن أهم مفاصل المسلسل قد تكون تلك اللحظات الرنانة عاطفياً لعلاقات مو مع أقرب الناس إليه (والدته الصارمة لكن المحبّة، شقيقه سمير، وحبيبته ماريّا، وطيف والده المتوفى) التي تنقلنا إلى فضاء ميلودرامي لا كوميدي. أما نهاية المسلسل التي يُفترض أنها مفتوحة، فبدت غير مقنعة وافتقدت القدرة على فتح النوافذ للتأمل في المحتوى المتوقّع في الموسم التالي.
هزالة الخطاب السياسي وضعف البنية السرديّة تعوّضهما معالجة هموم الأجيال الثانية من المهاجرين الفلسطينيين


يعمد العمل أحياناً ـــ ربما بتأثير رامي يوسف ــــ إلى لمس موتيفات إسلاميّة، بحكم أنّ الأميركي الأبيض يرى كل عربيّ أو فلسطيني مسلماً حكماً. والتسطيح هنا سيّد الموقف دوماً، حيث شكليات وطقوس فارغة لا تتعارض فيها البسملات الكثيرات أو الصلوات الخمس أو خلع الأحذية عند الدخول إلى المنزل مع النوم في حضن ماريا أو شرب الكوديين أو العمل في نادٍ للتعري. ديناميات الإسلام وتشابكاته المفترضة مع الحياة الشخصيّة والعائليّة والمجتمعيّة هنا معلّبة تماماً كشيء لن يزعج معدة الأميركي الأبيض حتماً.
تقنياً، التصوير متمكّن خدم أغراض القصّة كما يجب، مع بعض المبالغة المفهومة في استعراض معالم هيوستن ككويت ذهبيّة جديدة بديلة عن فلسطين غير الممكنة، لكنّ الموسيقى بدت مزيجاً مزعجاً أحياناً من ألحان فلسطينية وعربيّة وغربيّة، وحتى أغنيّة لغوار الطوشة من أيّام مسلسل «صح النوم».
قد يعتبر بعض العرب والفلسطينيين ممن يحسنون الظنّ بالنوايا الغربيّة أنّ مسلسل «مو»، نقلة إيجابيّة في صيغة تقديم صورة العربي الفلسطيني في الإعلام الأميركي. لكنّ الجليّ أن نتفليكس تقدّم لنا فلسطين – والفلسطينيين - التي تناسب مقاييس العين الأميركيّة حصراً، حيث لا صراع وجوديّاً مع الكيان العبري، ولبّ الصراع استحصال حقوق قانونية وإجرائيّة هنا في الأرض المحتلّة أو في الشتات. إنّه التطبيع الناعم مع الأوضاع القائمة، ومو، رغم موهبته البارزة، ليس سوى صبيّ موهوب آخر يسترزق من العزف على النّغم الغربي النشاز، وإن مع بضع عبوات من زيت زيتون مزوّر، وكثير من الشتائم العربيّة القذرة.