ربما هو التوقيت، حيث تغرق بريطانيا لحظة بلحظة في أسوأ أزمة اقتصادية استدعت أشباح ضنك عيش العمّال والفقراء في عهد مارغريت تاتشر، أو هي الحكاية المشغولة بذكريات الألم الذي عاشته مدن وبلدات حزام المناجم البريطاني خلال ذلك العهد المظلم. أو ربّما تكون حاجة المجتمع البريطاني إلى التطهّر ومواجهة تاريخ يُندّى له الجبين من توظيف الأجهزة الأمنية ضد مواطنيها بأخسّ الأساليب. قد يكون فريق العمل الذي جُمع لسرد الحكاية: ديفيد موريسي، روبرت غلينيستر، جوان فروغات، ألون أرمسترونغ، أديل أختر، ليندسي دنكان وليزلي مانفيل، وغيرهم من نجوم الصف الأوّل في الدراما البريطانيّة. أو هي الأجواء الساحرة للبلدات التي تحيط بها غابة شيروود التاريخيّة مسرح حكاية روبن هود الشهيرة، البطل الشعبي الذي كان يسرق من الأغنياء ليطعم الفقراء. لا يمكن الجزم تماماً، لكنّ ثمّة روحاً غريبة تسافر في لحظات مسلسل Sherwood أهّلته سريعاً ليكون محط شغف جماهيرياً نادراً. حتى إنّ عدد المنازل التي شاهدت حلقاته الست فور بثها، كان أكثر من عدد تلك التي تتابع نشرة الأخبار الرئيسيّة على القناة الأولى للـ«بي. بي. سي»، رغم توفره للمتابعة في أي وقت لاحق من خلال خدمة البث على الإنترنت. الدراما التي اعتبرها النقّاد بأغلبيتهم الساحقة أفضل ما أنتجته «بي. بي. سي» منذ بعض الوقت، كتبها جيمس غراهام أحد أهم كتاب المسرح والدراما في بريطانيا، مستذكراً حادثتي قتل هزّتا بلدته الصغيرة بالقرب من مناجم الفحم السابقة في منطقة نوتنغهامشير عندما كان طالباً عام 2004. وقتها، وقعت حادثتا قتل استدعتا الشرطة من أجل مطادرة فاعليهما، أكبر عدد من رجالها إلى المنطقة. أمر استدعى ذكريات مريرة عندما تدفّقت أعداد مماثلة من قوات البوليس لسحق إضراب عمّال المناجم في فترة 1984-1985 في عزّ الحرب الطبقيّة التي شهدتها بريطانيا بعدما اختارت نخبتها أن تمسك بيد الولايات المتحدة وتقفز إلى تقسيم عمل دولي جديد في إطار المنهجيّة النيوليبرالية، تطلّب تفكيك الإنتاج الصناعي التقليدي وأنشطة التعدين، وخفض الأجور، والتحوّل إلى نموذج اقتصاديّ جديد بالكامل. احتجاجاً حينها، قرّر عمّال المناجم تنفيذ إضراب واسع النطاق واعتصامات وتظاهرات دعمتها الطبقة العاملة بمجملها، وتصدّت لها قوات الأمن، فقمعتها بالقوّة الفجّة، والتجويع عبر قطع الإعانات الاجتماعيّة عن الممتنعين عن الالتحاق بعملهم ومصادرة أموال نقابتهم.
محض العنف وسياسات الترهيب تلك لم تكسر إرادة العمّال. قاوموا على المتاريس لأشهر مديدة. لكن حكومة تاتشر كسرتهم وقتها بسلاح غادر عندما نفّذت خطّة اختراق أمني سريّ لمجتمعاتهم عبر زرع شبكة عملاء لها بين الناس كلّفوا بالتجسس على الجيران ورفاق العمل من دون أيّ مبررات قانونيّة، ونشر الشائعات والتبليغ عن الشخصيات القياديّة وراء الإضراب وكل من يتعامل معهم، وفتحت الرسائل الشخصيّة، واعترضت الهواتف، وتم التنصت على البيوت والمقرات، والأهم نثرت بذور الخلاف بين مكوّنات الحركة العماليّة. وقد أدى ذلك في النهاية إلى انقسام حاد بين فريق يصرّ على الاستمرار بالمواجهة، ومجموعات رأت أن لا جدوى من مقاومة العين للمخرز، فكانت بداية الهزيمة المحتّمة للطبقة برمّتها.
انتصرت حكومة تاتشر على العمّال، ونُفذت رغبات السيّد الأميركي على أدق الأوجه، لكنّ مرارة الانقسام بين الرفاق والأصدقاء والأهل والجيران وحتى أحياناً داخل العائلة الواحدة لم تخبُ أبداً، وتحولت إلى عداوات دائمة، إلى درجة أنّه بعد مرور عقود، كان الفرقاء من الجانبين لا يزالون يذهبون إلى حانات مختلفة أو يقطعون الشارع إلى الجهة الأخرى لتجنب مقابلة من اختار موقفاً مغايراً. وفي تموز (يوليو) 2004، استُدعي كل الغضب المتراكم في الصدور عندما عُثر على عامل المناجم والنقابيّ المناضل السابق كيث فروغسون مقتولاً بوحشية باستخدام القوس والنشاب وسيف ساموراي خارج منزله في أنيسلي وودهاوس (بالقرب من غابة شيروود)، وبعدما ظنّ الناس أنّه قُتل على أساس الحزازات الموروثة من حقبة الإضراب. تصاعدت التوترات بعد أسبوعين حين أُضرمت النار بمنزل فروغسون حيث تقيم ابنته وصهره، لكنهما نجَوَا من الحريق. ولمنع انفراط الأمور، سارعت الشرطة البريطانيّة إلى تنفيذ إحدى أكبر عمليات المطاردة الأمنية في تاريخها لتعقّب المتهم بالجريمة روبرت بوير الذي فرّ إلى الغابة المجاورة، واحتُجز لاحقاً في المستشفى إلى أجل غير مسمى بسبب القتل بعدما تبيّن أنّه مختلّ سايكولوجيّاً وأن جريمته لا علاقة لها بالانقسامات بين العمّال. لكن قبل القبض عليه، ضاعفت حادثة مقتل الشابة المتزوجة حديثاً شانيل تايلور بعد أسابيع قليلة من مقتل فروغسون من الأجواء المحتقنة في مجتمع كان مزاجه قد بلغ أقصى درجات التعكّر. وفي المحصّلة، فإن الجريمتين لم تكونا ذواتَيْ صلة بمرحلة الإضراب. تبين لاحقاً أن الشابة قُتلت على يد والدها تيري رودجرز الذي أضرب عن الطعام حتى الموت قبل محاكمته. لكنّ ألم التّصدعات التي تركها انقسام المجتمع في المرحلة السابقة لم يكن قد تلاشى بأي شكل، بل أصبح بمثابة خلفيّة جاهزة دوماً لحرب أهليّة جديدة قد يشعلها مخبولون من أجل هباءة. وفي ذلك درس تاريخيّ عن كلفة توظيف النخب لقوى الاستقطاب سعياً لتحقيق غايات سياسية آنية: إرث سام لا يفنى تتناقله الأجيال.
يغرف كاتب النص من ذكرياته عن تلك المرحلة، ويعيد صياغتها في إطار خيال درامي يستند إلى الأحداث الحقيقيّة لكنه يحلّق فوقها، ويفتح في موازاتها الملف المرّ لتجربة العملاء المزروعين داخل مجتمعات العمّال، الذين منحوا أسماء أشخاص ماتوا منذ عقود، وهويات مختلقة، وعاشوا بين الناس، وأسهموا في كسر إرادتهم على المقاومة. لكنّ كثيرين من هؤلاء، وفي إطار أدوارهم التجسسية، بنوا علاقات اجتماعيّة، وارتبطوا برجال ونساء، وأنجب بعضهم أولاداً، واختار كثيرون من بينهم نسيان هوياته الأصليّة والاستمرار بالهوية التي خلقتها له الأجهزة الأمنية. ويمكن تخيّل حجم الشكوك التي راودت أبناء جيل كامل بأقرب الناس إليه بعدما تسربت بعض تفاصيل تلك الحرب القذرة إلى العلن.
يغرف الكاتب من ذكرياته عن تلك المرحلة، ويعيد صياغتها في إطار خيال درامي يستند إلى الأحداث الحقيقيّة

يلعب الممثل المخضرم ديفيد موريسي دور إيان سانت كلير ضابط البوليس المحليّ المكلّف بالتحقيق في جريمة مقتل أحد قادة الإضراب السابقين، ويلتحق به زميل مرسل من لندن للمساعدة على كشف الفاعل. وسرعان ما ينكشف حقل الألغام الذي يحيط بالتحقيق: فقدان الثقة العمومية بالأجهزة الأمنيّة، ومشاعر الخذلان والخيانة تجاه ما يأتي من لندن، وشكوك الناس العميقة بهويات من يعيشون بينهم، ناهيك بالأحقاد المتبادلة بين طرفي جيل الإضراب. خلاصة هذه التوترات الفريدة منحت العمل الدرامي في «شيروود» كل ما يحتاج إليه لكي يسطع السرد حكاية ناضجة متماسكة جادة تخاطب القلوب، وأعطت فريق الممثلين منصة ذهبيّة لتقديم أبدع ما لديهم في تجسيد شخصيّات معقّدة ومتطلبة. ولذلك، لم يتعجّب أحد عندما سارعت «بي. بي. سي» إلى التوقيع مع فريق العمل على تنفيذ موسم جديد.
ليس «شيروود» بمسلسل جرائم تقليديّ وإن امتلك أدوات الإثارة التي يفترض بهذا النوع الدرامي امتلاكها. هنا السياق هو الأساس. إنّه حكاية مستلّة من عمق تاريخ الناس، حاولت النخبة الحاكمة دائماً كنسها تحت السجادة، أبطالها أشخاص نكاد نقابلهم ويمكن تصديقهم، وفضاؤها حيّز زمانيّ ومكانيّ مألوف، للبريطانيين بالطبع ومن يستذكر حقبة نضال عمال المناجم، ولم يقصّر في هجاء خطايا وخيانات الجميع: الشخصية والطبقيّة والقوميّة، بأقصى ما يمكن أن تسمح به ضمائر النخبة الحاكمة اليوم لأن يُعرض على تلفزيون عام... يا له من تحفة تامّة!