كصدى متواصل، تتناسل أصوات أفلام وشخصيات يسري نصرالله (1952)، منذ باكورته الطويلة حتى عمله الأخير. لا يزال السينمائي المصري ينسج صوراً مفاجئة عن أمور طبيعية تحدث أمام أعيننا كل يوم. يعشق سحر السينما، يعرف تماماً ما يريد قوله من خلالها، في ما يتعلق بكل الاضطرابات التي شهدتها مصر والعالم العربي، وقد عايشها بنفسه. من خلال أعماله، يمكننا تبيّن خلفيته الاجتماعية والثقافية وسيرته الذاتية وسعيه إلى الاستقلال الذاتي عن المصالح الاقتصادية في صناعة الأفلام. تتحدّى أعماله الأعراف الاجتماعية، لتشعل غالباً الجدل والنقاش. يقدم نصرالله شكلاً ديناميكياً صعباً، لكن يسهل الوصول إليه من خلال سرديته السينمائية التجريبية في جوهرها. أفلامه حيوية، رشيقة وجريئة. يشير إلى عيوب وخصوصية مصر، راغباً في أن تكون أكثر جرأةً، تماماً مثل أبطاله. التقينا صاحب «سرقات صيفيّة» خلال الدورة الأخيرة من «مهرجان عمان السينمائي الدولي – أول فيلم»، فأخذنا الحديث إلى مصر وعالمها السينمائي والإنساني
لا ينسى يسري نصرالله لحظة عرض فيلمه الأول «سرقات صيفية» (1988) الذي قدّم صورة للمجتمع المصري في الستينيات خلال عهد الرئيس جمال عبد الناصر. طرح الشريط العلاقة بين الإقطاعيين والفلاحين عقب ثورة يوليو، ما بين صداقة مفقودة، وتفكك أسري، ومحاولة للتشبث بالأرض. يقول لنا: «كان أول عرض لـ«سرقات صيفية» في تظاهرة «أسبوعا المخرجين» ضمن «مهرجان كان»، لم أكن أفهم ماذا يجري.

يسري نصرالله: موضوع الحجاب في مصر اليوم مسيّس وعنيف بدرجة كبيرة

هناك دوماً شعور غريب ينتابك في لحظات مماثلة، وحتى اليوم ما زلت أشعر به لدى عرض فيلم جديد. عندما تبدأ بصنع فيلم، تمضي عامين تقريباً في الكتابة والبحث عن المال لإنتاجه وتصويره، ثم هناك مرحلة ما بعد الإنتاج. سنتان من العمر تمرّان في ساعة وخمس وأربعين دقيقة. هناك إحساس غريب جداً، كأنك خارج الزمن، أو شعورك بالزمن يتغير. في اليوم الثاني بعد العرض، كنت أمشي على الكروازيت وكان معي يوسف شاهين. وقتها كنا نكتب فيلم «إسكندرية كمان وكمان» (1990). صادفنا المخرجة إيناس الدغيدي التي قالت لي: «ياه يا يسري قد إيه حلو الفيلم، نفسي أوي أعمل فيلم زي الفيلم بتاعك». وقتها كانت ترتدي أساور ذهبيّة في كلتا اليدين، فقلت لها: «إنت لو بعتي اسوارتين من دول، حتعملي فيلم زي ده». فأجابت: «هو أنا حمارة؟» (بمزاح وضحك). وهنا فهمت أن أول فيلم لي، ليس الأول لها ولا أول فيلم لأي شخص آخر، هي تجربة تحدّد من أنت بعدها، وهي لوحة التعريف عنك، فهو الأول والأخير. دخلت تجربة الفيلم الأول من دون تخطيط، لم أفكر في إنجاز فيلم يشارك فيه ممثلون يؤدون للمرة الأولى، وفي تصويره بكاميرا سوبر 16، وما إلى ذلك. خلال الكتابة، أخذت السيناريو إلى الرقابة، فمُنع بحجة انتقاده عبد الناصر. أوضحت أن الفيلم ليس ضد عبد الناصر، ولا حتى معه. ما أنا أردت قوله في الفيلم أنّ هناك حالة سائدة وقتها، وأردت مقاربة كيفية تعامل المجتمع معها. تعاركت مع الرقابة لأشهر، ثم بدأت اختيار الممثلين. أردت ممثلين يعرفون ما هو التمثيل مثل يسرا، وإسعاد يونس. ولكنّ الجميع رفض بسبب موضوع الفيلم: «عايز يقول إيه المجنون ده، عبد الناصر جمهوري مش عارف ايه وبتاع!». ولأن تمويل هذا الفيلم كان منّي أنا شخصياً، قال لي شاهين: «أنت معاك الفلوس دي، مش محتاج لأي حد. هات أي ناس يعرفوا يمثلوا». وكانت هذه أهم نصيحة منه. لذلك بدءاً من هذا الفيلم وصولاً إلى أفلامي اللاحقة، عرفت كيف أختار الممثلين الجيدين للدور. وإلى الآن علاقتي ممتازة بالممثلين، هم يريدون العمل بجانبي، لأنّ هناك شعوراً بالتحرر وبأنّهم أحرار. وضع هذا الفيلم تعريفاً لي. لكنّ الأمر الثاني الأقل لطافةً هو أن الناس وضعوني في قالب مفاده أنّ يسري يصنع فقط أفلام مهرجانات. ولكن في الوقت نفسه، أؤكد أنّه ليس هناك منتج خسر ملليماً واحداً بسبب فيلمي، ولو خسر، فلأنه لا يجيد تسويق الأفلام. «احكي يا شهرزاد» (2009) و«الماء والخضرة والوجه الحسن» (2016) كانا ناجيين تجارياً. أما «بعد الموقعة» (2012) فكان حالة خاصة («أنا بحب الفيلم ده أوي أوي»). المشكلة لا تكمن في التسويق. هو فيلم لا يمكن أن أصنعه إلا في وقته، وعندما صنعته في وقته، لم يقبله أحد. في الغرب أي في «مهرجان كان»، كانوا يتوقّعون فيلماً عن الثورة وحقيقتها. والجمهور في مصر لامني بحجة «أنت ما لقتش في الثورة غير الناس يلي كانوا ضد الثورة!». نعم، لأنهم هم اللافتون حقاً. هم الذين لديهم مشكلة حقيقية، بالإضافة إلى المشكلة التي كنا نواجهها كلّها، بمن فيهم هم، لأنهم كانوا مشكلة لنا أيضاً. لذا، كان هناك نفور من الفيلم من كل الجهات، ولكنّ العالم اليوم يتقبله جداً. حصل الأمر نفسه مع «مرسيدس» (1993). عندما عرضته للمرة الأولى، اشتعل الجدل واتُّهم بأنّه منحلّ، لكنه اليوم استحال فيلم Cult، وشوهد كثيراً، واليوم يقولون لي «ياه، ده انت كنت بتتنبأ؟». لكن لم أكن أتنبأ، بل رأيت أنّنا كمجتمع، فنحن عالقون إما في ماضٍ، أياً كان، ماضي عبد الناصر، ماضي الملكية، ماضي الإسلام الأولاني، ماضي الفراعنة... أو مستقبل اشتراكي، أو دولة حديثة زي دبي، فيما لا أحد يريد رؤية الحاضر».
القضايا والأسئلة التي طرحها نصرالله في أفلامه، ما زالت راهنة اليوم، لكنّ المخرج يراها بطريقة مغايرة. يعلّق: «مثلاً، «مرسيدس» كان مختلفاً عما يراه الناس في الشارع وعن الحالة الذهنية للشعب. سياسياً، قارب الشريط انهيار الكتلة الاشتراكية، وكل المجتمعات العربية كانت تلعب على التناقض ما بين روسيا وأميركا. وهنا أتكلم عن الأنظمة لا الشعب. لذلك، عند انهيار الكتلة الاشتراكية، ساد إحساس بأننا أمام نهاية العالم، «والسادات طلعلك وقلك بابا مات، اتصرف بقا». بما معناه أن مجتمعاً مبنياً على الدولة، وعلى مجانية التعليم والسكن وغيرهما، وجد نفسه عارياً من كل ذلك. وهذا ما شكّل فوضى أتاح دخول المعادلة الإسلامية، والأنظمة العسكرية على المشهد... فهل تغير هذا اليوم؟ الجديد هو أن القصص التي كنا نفكر أنها أزماتنا نحن، بدأنا نراها اليوم في فرنسا وأميركا وفي كل مكان».

«سرقات صيفية» (1988) قدّم صورة للمجتمع المصري في الستينيات

ينقلنا الحديث من أفلامه الروائية إلى فيلمه الوثائقي الوحيد «صبيان وبنات» (1995). هل يفكر في إنجاز وثائقي آخر؟ وهل موضوع الحجاب الذي شكّل عماد الفيلم إلى جانب قضايا أخرى، ما زال راهناً اليوم؟ يجيبنا: «أنا تغيرت. «صبيان وبنات» ولد من حادثتين في مصر وفرنسا. فتاة محجبة ذهبت إلى المدرسة في فرنسا وقامت القيامة و«تسيّست» القصة. وفي مصر، قرأت مقالة في «روز اليوسف» عن أنّ واحداً من قياديّي الجماعة الإسلامية نُقل من السجن عند وزير الداخلية للتفاوض على نبذ العنف. وكانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها الشارع منذ اغتيال السادات. حين دخل على الوزير، كان سعيداً جداً. سأله الوزير عن سبب سعادته، أجاب: «عشان انتصرنا. كل الستات محجبات». أنا اختلطت كثيراً مع محجبات، وحتى من ضمن العاملين في السينما. والأكيد أنّ حجابهنّ ليس تصويتاً لهذا الرجل، أو لهذا الفكر. أتكلم عن الموضوع وجودياً. ومن هنا جاءت الفكرة، أردت أن أنجز فيلماً عن هذا الأمر. خلال الجامعة، شاهدت بدايات الحجاب التي تزامنت مع سفر الكثير من الرجال إلى السعودية، وعودتهم حاملين منظومة القيم الأخلاقية هذه. تعرفت وقتها أكثر إلى الممثل باسم سمرة الذي شارك بدور صغير في فيلم «مرسيدس»، وعمل مع يوسف شاهين في «القاهرة منورة بأهلها» (1991). وكنت أتكلم عن الموضوع، فقال لي: «تعال شوف عيلتي». وباسم كشخصية، مثير جداً للاهتمام. هو من بلقاس، بجانب المنصورة من الدلتا. هاجرت عائلته إلى القاهرة وسكنت في نزلة السمان (الجيزة)، وكان باسم يعمل مدرساً ثانوياً على طريق الصعيد، ويحلم أن يصبح ممثلاً. لدى باسم وعائلته حراك اجتماعي عظيم، فبدأت تصوير باسم وعائلته والمدرسة التي يدرّس فيها. بدأت التصوير بحثاً عن جواب على ماهية الحجاب وأصله. لكن في النهاية، عبّر عنوان الفيلم «صبيان وبنات» عما أردتُ قوله. سواء بحجاب أو بدونه، أردت تصوير هؤلاء الشباب، ماذا كان يفعلون ليعيشوا الحب، والعلاقات في ما بينهم. لذلك أخذ الفيلم منحى مختلفاً، خصوصاً خلال المونتاج. مثلاً، هذا أمرٌ لاحظته في الجامعة مع بدايات تحجيب البنات، الذي واكب الانفتاح الاقتصادي. مع هذا الانفتاح، بدأت بنات الطبقة المرفهة يلبسن «سينيهات» ويأتين بسيارات مرسيدس، وبنات المدينة الجامعية والطبقة الأكثر فقراً، تحوّل لبسهنّ إلى شيء خارج عن الموضة. مع ذلك، جاء شخص يقول لهن: انتن لسن غنيّات ولا فقيرات، أنتن مسلمات! خلال التصوير كنت أقاوم دوماً فكرة الفيلم الرئيسية، التي كانت تتضح أكثر خلال المقابلات والإجابات التي أسمعها. كنت مصمّماً على تصوير الأشخاص الذين أحبّهم فقط، أي باسم وعائلته وأصدقاءه وزملاءه. خلال المونتاج، بدأت أبحث في الساعات الثمانين التي صوّرتها، وصنعت فيلماً من ساعتين. لكن عندما شاهدته، قلت في نفسي «أنا بكره الناس دي! مش دول الناس الي انا بحبهم!». لذا، أعدت تركيب الفيلم بطريقة مختلفة كلياً، ورحت أبحث بين هذه الساعات الطويلة، أين أحببتهم. اكتشفت أنّ كل اللحظات اللذيذة هي تلك التي تفهم منها ما هي الاستراتيجيات التي يستعملونها للتخلص من كبسة الحجاب وكبسة العيلة وكبسة المجتمع، وكيف يخرّبون هذا كله. ومن هذه الناحية، لا يزال موضوع الفيلم قائماً.
أفلامي تتحدّث عن فوضى المشاعر، والعائلة، والطموح، وفوضى الحياة باختصار

اليوم، إن أردت أن أصنع الفيلم نفسه، فسوف يكون مختلفاً كلياً. نساء كثيرات يخلعن الحجاب اليوم، وهذا مثير للاهتمام مثلاً. هناك ملاحظة أخرى هو أنّ الفيلم تسيّس اليوم في حين أنّه لم يكن كذلك وقتها. اليوم في مصر هناك جدل حول ما إذا كان الحجاب فريضة أو لا. فتوى علماء الدين وكل هذه المعارك سياسية بامتياز. موضوع الحجاب في مصر اليوم مسيّس وعنيف بدرجة كبيرة. مثلاً، كلنا نتذكر حادثة الفتاة التي ذُبحت على يد صديقها قبل أشهر، والنقاش الذي دار حول ما إذا كانت هي الضحية أم هو. «الخناقة دي، خناقة سياسية عن الحجاب». لو كانت محجبة، لن تجد أحداً يدافع عنه ويقول إنه الضحية.
«مرسيدس»، «سرقات صيفية»، و«جنينة الأسماك» (2008)، «بعد الموقعة»، «احكي يا شهرزاد» كلها أفلام مدينة، ماذا يحاول يسري نصرالله أن يقول؟ «المدينة كلها فوضى، مركّبة وذاهبة في جميع الاتجاهات. الفوضى شيء مرعب جداً، فأفلامي تتكلم عن فوضى المشاعر، والعائلة، والطموح، وفوضى الحياة باختصار. لذلك تحاول أن تجد داخل هذه الفوضى معنى، لتستطيع التعامل معه. هناك دوماً التحدي نفسه وهاجس يسكنني حول كيفية الإمساك بكتاب المدينة أو المشاعر. لا أبحث عن الضحايا في أفلامي «أنا ما بحبش الضحايا كشخصية درامية، بتعاطف معاهم في الحياة. لكن كشخصية درامية، أفكّر في كيفية إخراجها من وضعها، فهذه حكاية مثيرة».