يوصف الكاريكاتور بأنّه فن السخرية أو النقد الاجتماعي أو السياسي أو الفني برسمة تختصر مئات الكلمات. اشتهر هذا الفنّ في فرنسا عام 1665، فيما شهد العالم العربي محاولات مبكرة في ظهور فن الكاريكاتور السياسي مع نهايات القرن التاسع عشر، خصوصاً في مصر على يد الصحافي والمسرحي المصري يعقوب صنوع الذي أسّس جريدة «أبو نضّارة» التي تُعد من أولى الصحف التي احتوت الكاريكاتور السياسي الذي ينتقد الاحتلال الإنكليزي، والسلطة المتمثّلة وقتها في الخديوي اسماعيل وابنه الخديوي توفيق.شهدت سوريا أيضاً أولى التجارب العربية في فن الكاريكاتور على يد الرسام السوري عبد الوهاب أبو السعود. كان ذلك عام 1921 حين أسّس جريدة فكاهية ناقدة باسم «جراب الكردي» التي انتقد فيها ــ بالكاريكاتور ـــ الكثير من القضايا والظواهر الاجتماعية، والسياسية وبعض أفعال الحركات الصهيونية في فلسطين، وحتى حكومة الانتداب الفرنسي. كما عمل على ابتكار العديد من الشخصيات الكاريكاتورية التي مثّلت المواطن السوري بمختلف أطيافه.




بعد إعلان الملكية في مصر على يد الملك فؤاد الأول، خلفه ابنه الملك فاروق الذي استخدم الكاريكاتور السياسي في حملته الكبرى ضد منافسه العتيد مصطفى النحاس باشا، زعيم «حزب الوفد» بواسطة رسّام الكاريكاتور المصري الكبير محمد رخا (يعتبر الأب الروحي لرسامي الكاريكاتور المصريين) بمعاونة الصحافي مصطفى أمين. لكنّ رخا سُجن عام 1933 لمدة أربع سنين بتهمة «العيب في الذات الملكية والتشهير بالملك». وأثناء حكم الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، شهدت حركة الكاريكاتور النقدي في مصر هدوءاً إجبارياً.
يشير مؤلّف كتاب «الكاريكاتور العربي والعالمي» الفنان عبد الحليم حمود إلى أنّ فن الكاريكاتور في مصر، كان في البداية حكراً على الأجانب، إلى أن دخل هذا الميدان الفنان المصري محمد عبد المنعم رخا. هكذا تطوّر هذا الفن في حضن الصحافة وانتشر ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الصحافة المقروءة، ليس في مصر فحسب، بل أيضاً في سوريا ولبنان ومنطقة الخليج وباقي الدول العربية. في سوريا، صدرت أول صحيفة هزلية في 2/4/1909 باسم «ظهرك بالك»، وعلى مدى أربعة عقود، أبصرت 44 صحيفة هزلية النور قبل أن تقفل الواحدة تلو الأخرى. وأشهر ثلاث صحف هزلية ظهرت في سوريا هي «حط بالخرج» سنة 1909، و«النديم» سنة 1919، و«المضحك المبكي» وهي أسبوعية سياسية فكاهية كاريكاتورية أصدرها حبيب كحالة الذي يعتبر مؤسّس الحافة الهزلية، واستمرت حتى عام 1966، وقد تعرّضت للتوقف مرات عدة. أما في لبنان، فيشير حمود إلى أن أول صحيفة هزلية في لبنان أصدرها السوري نجيب جانا في 17/9/1910 ثم تلتها مجموعة من الصحف المماثلة ومنها: «البغلة» و«حمارة الجبل» وغيرهما....




مناسبة هذه المقدّمة التعريفية الطويلة بتطوّر فن الكاريكاتور في العالم العربي، صدور كتاب «حبيب حداد ــــ سحر الورقة البيضاء» (مكتبة أنطوان ــــــ و«طش فش») الذي جمع أحد عشر كاتباً ورسّام كاريكاتور وصحافياً هم سمير عطالله، جو زابو، محمد علي فرحات، الياس ديب، علي مندلاوي، جان رطل، اسكندر الديك، نسيم خوري، سعد حاجو، عماد حجاج، وجورج خوري. هؤلاء قدّموا شهادات بحبيب حدّاد (1945) نحّات الفكرة كما يحلو لكثيرين أن يصفوه. يندرج الإصدار ضمن مبادرة شركة «طش فش» التي تصدر كل عام كتاباً يهدف إلى «تقديم فنانين مختلفين، فضلاً عن إعادة نشر أعمال عظماء في هذا المجال من جميع الدول العربية لتصل إلى جمهور أوسع على مستوى العالم العربي» إلى جانب مبادراتها الأخرى مثل «مساعدة وتشجيع الشباب والمواهب الصاعدة في فن الكاريكاتور والكوميكس في العالم العربي». الكتاب الجديد صدر بمقدّمة لمدير المؤسسة معتز الصوّاف، فيما جاء النشر تولّى بإشراف كميل حوا. كلمة الناشر عبارة عن إجابة على سؤال «لماذا ننشر هذا الكتاب؟». وفي معرض إجابته، يقول الصوّاف «لأنّ حبيب حدّاد هو قامة مشهود لها في فن الكاريكاتور العربي ولأنّ أعمال حداد الفريدة في تنوّعها وغزارتها ومقاصدها، تستحقّ أن تكون ملك ذاكرة هذا الفنّ وتنضمّ إلى مكتبتنا الكاريكاتورية ـ التشكيلية التي لا تزال في بداية مسيرتها وينقصها الكثير... الكتاب يكاد يمثّل حبيب حداد كلّه: إنّه يشمل نسبة كبيرة من رسومه، والمراحل التي شهدها وشهد عليها، في مختلف وسائل الإعلام التي عمل فيها والمدن التي مرّ بها، مع تصنيف للأعمال حسب المواضيع الرئيسية التي تناولها: من لبنان إلى فلسطين وإلى الشرق الأوسط وأوروبا وأميركا، إلى الربيع العربي وحرية التعبير والاقتصاد والمناخ... ويشمل الكتاب أيضاً سيرته الشخصية التي استقاها فريق البحث من مراجع مختلفة أهمها حوارات مباشرة مع الرسّام، لذا فهي سيرة عنه ومنه في آن».
في حوار تضمّنه الكتاب، يقول حداد: «اكتشافي للورق، كان كأنّه اكتشاف الإنسان للنار. صار بياض الورق رفيقي وخليلي الذي لا أفارقه. صارت الورقة من المقدّسات وباتت كأنّها المرآة. رحت منذ طفولتي أعتني بالمساحات البيض عنايتي بالمساحات التي ألوّنها، فلا أسرف في استخدامها. ما صنع توازناً على الورقة لم أقصده، لكن منذ ذلك الحين صار القلم والورقة امتداداً ليدي وأصابعي. هي برفقتي وأنا برفقتها حتى اليوم وطالما أطال الله بعمري».
عاش حدّاد مع نقص شديد في الحصول على مادة خام أساسية للرسم. لذا اضطر في بداياته إلى اتخاذ الحيطان أوراقاً لمحاولاته الأولى، ثم اشترى له والده أوراقاً بيضاً وأقلاماً ملوّنة، وأبحر في عوالم الرسم الذي لم يتعلّم قواعده الأكاديمية البتة. التحق بمسيرة سرد قصصه المصوّرة والكاريكاتورية عن شخصيات اخترعها بنفسه، وانتقل من الميناء مسقط رأسه إلى بيروت وبدأ حياته المهنية من مجلة «بساط الريح» إلى جريدة «الأخبار» ومن ثمّ «النداء» فـ «الأنباء»، وبعدها كرّت سبحة انتقالاته... وبعدما تمرّس واشتهر في الدول العربية والأوروبية والأميركية، أصدر ألبومين لرسومه الكاريكاتورية، الأول بعنوان «الأحداث بالكاريكاتور» عام 1979 والثاني «حداد كرتون» عام 1989، وشارك في العديد من المهرجانات، وتوِّج بـ 16 جائزة عالمية.


حول إشرافه على الكتاب، يقول لنا الفنان والمصمّم كميل حوّا: «العمل عبارة عن مجموعة مساهمات قيّمة وخفيفة الظل في مكان ما، ابتدأت بالسفر إلى باريس حيث مقرّ حبيب حدّاد لجمع الصور والأرشيف الذي رسمه هناك، إلى المقابلات التي أُجريت معه ومع أصدقائه لكتابة سيرته الشخصية ومجموعة شهادات من صحافيين وكتّاب ونقّاد. هذه الشهادات شكّلت قيمة مضافة للكتاب بدون شك، لأنّ أصحابها مجموعة متنوّعة، عرفت حبيب حدّاد وعرفت فنّ الكاريكاتور وكتبت بمحبّة وبشكل لطيف وموجز». ويضيف أنّ الكتاب «هو مجموعة هذه الأشياء الظريفة وأهمّ ما فيها في الختام مختارات من أعمال حبيب حدّاد تكاد تغطّي كلّ مسيرته الطويلة التي فاقت نصف قرن، والظريف أيضاً هو تنوّع حبيب حدّاد بمعنى أنّه سافر من مدينة إلى أخرى ومن صحيفة إلى أخرى ومن موضوع إلى آخر... من بيروت إلى باريس إلى لندن ومروراً بدول الخليج... وتنقّل في مواضيعه من قضايا لبنان إلى فلسطين وأخرى عربية إلى قضايا الإنسان والفقر والجوع والبيئة... فهذا التنوّع جعل الكتاب يتمتّع بجاذبيّة أكبر».
بكلّ وضوح، يقول حوّا إنّه لا يوعز «هذا الإعجاب بالكتاب» إلى دوره كمشرف، «بل إلى ما ذكرته من مساهمات مختلفة قُدّمت بمحبّة وحماس. في الحقيقة، دوري يقتصر على الاهتمام بأسلوب الكتابة بشكل يكون متجانساً مع روح الكتاب وإخراجه وروح حبيب حدّاد، وتفادي أن يُقحم أيّ شيء يسيء إلى خفّة الظل المطلوبة لكتب في فن الكاريكاتور. طلب منّي الصديق معتزّ الصوّاف الإشراف على الكتاب على الرّغم من قلّة تخصّصي في هذا الحقل ومعرفتي بحبيب حدّاد التي لا تتعدّى معرفة أي قارئ متابع للصحافة العربية خلال العقود الماضية. تداولنا في مضمون الكتاب سوياً مع الفريق الذي يعمل في دار النشر «طش فش»، ومن أسباب ترحيبي بهذه المهمّة هو تقديري للجهود الكبيرة التي يقوم بها معتزّ الصوّاف كناشر وكمحبّ لفنّ الكاريكاتور وكرسّام كاريكاتور هو نفسه وإن كان يرسم على شيء من الاستحياء».
يجد حوّا أنّ ما يقوم به الصوّاف لا ينال التقدير الذي يستحقّه، «إذ إنّه ينشر لفناني الكاريكاتور من كلّ أنحاء العالم العربي من المحيط إلى الخليج، ويقدّم مساهمات في البحث وفي أرشفة الكاريكاتور، إضافة إلى المسابقة السنويّة التي تقوم بها جمعية «معتزّ ودارا الصوّاف» خلال السنوات الأخيرة وهي «جائزة محمود كحيل» التي تركت أثراً مهماً وشكّلت مساهمة مهمّة لتشجيع فناني الكاريكاتور الشباب.
شهد العالم العربي محاولات مبكرة في ظهور الكاريكاتور السياسي مع نهايات القرن التاسع عشر

كان يُفترض أن تتولّى ذلك هيئة عربيّة ما، فإذا بدار نشر تأسّست بمبادرة فردية مع برنامج لتشجيع فنّ الكاريكاتير والشرائط المصوّرة العربيّة، تأخذ على عاتقها هذه المسؤولية». ويختم حوّا: «ما زالت المكتبة العربية اليوم فقيرة جداً في فن الكاريكاتور، وفي أقصى الحالات هناك بعض الكتب التي جمعت ما تيسّر من أعمال رسّام كاريكاتور واحد، وما خلا هذا، ليست هناك كتب صدرت في هذا الفنّ، وأقلّ من ذلك، ليس هناك نقّاد حقيقيون في فنّ الكاريكاتور يسهمون في متابعة هذا الفنّ وتقييمه وإلقاء الضوء على المواهب السابقة والجديدة التي عُرفت في الصحافة العربية في لبنان والقاهرة والخليج وفي كلّ دولة عربية، رغم أهميّة فنّ الكاريكاتور في الصحافة. إذ لا شكّ في أنّ القارئ العادي يحبّ الكاريكاتور. هو يبحث أولاً عمّا قدّمه فنان الكاريكاتور هذا اليوم وأي موضوع رسم، وبالتالي رسمة الكاريكاتور لها دور في حيوية الجريدة أو المجلّة تفوق بعض أهمّ كتّاب الافتتاحيات. ورغم ما ذكرته، فإنّ الاهتمام بفنّ الكاريكاتور محدود للغاية، وأختم بالقول بأنّ ظرف الكتاب يشبه حبيب حدّاد نفسه، فهو خفيف الظلّ وجريء ومتنوّع وشيّق. آمل أن يكون بداية كتب أخرى لفنّ الكاريكاتور العربي».