«لأنّني عشت في هذا الجزء من العالم (القاهرة)، أجزم أنّ مصر هي أفريقيا» (شيرلي غراهام دوبوا ـــــ نوفمبر 1973)
■ ■ ■

بعد سجال طويل، يبدو أن رؤية الكاتبة والمسرحية والموسيقية والمناضلة الأميركية شيرلي غراهام دوبوا (1896-1977) لمصر وثورة يوليو 1952 بلورة مثالية لنضج وعمق الفهم «الأفريقي» للثورة ومشروعها بعد مروره بمحطات وتقلبات جمّة على خلفيات من قبيل التصور الساذج للثورة وافتراض حالة راديكالية قصوى بها (كما في تصوّر جورج بادمور)؛ وتجاهل التهديد «الصهيوني- اليهودي» لمصر ومشروعها الوطني؛ وتباين وجهات النظر بشأن مشروع الوحدة الأفريقية وسبل دعمه؛ وغيرها من المسائل الجدلية في تطور هذا الفهم. لكن رؤية دوبوا، زوجة المفكّر الأفريقي الأبرز وليام دوبوا (1868 ـــ 1963)، امتزجت بتجربة عملية غنية باستقرارها في القاهرة منذ عام 1966، وتراكماً مع خبرة سياسية نادرة تمثّلت في سقوط نظام نكروما (فبراير 1966) بجهد غربي واضح مدعوم إسرائيلياً، كانت دوبوا تدرك حدوده تماماً كما اتضح في كتاباتها من القاهرة، إذ انتقدت السياسات الأميركية والاحتلال الصهيوني وآمنت بأفريقيّة مصر ونضالها ضد الغرب وإسرائيل نيابة عن القارة الأفريقية. رؤية ظلت راسخة بعد وفاة جمال عبد الناصر وتجسّدت مجدداً في كتاب دوبوا البارز عنه بوصفه «ابن النيل» (1972) ضمن إسهام علمي بارز لدوبوا في كتابة سير أبرز المفكّرين والقادة الأفارقة.

من «بروكلين هايتس» إلى القاهرة
ارتبطت سيرة شيرلي دوبوا وصولاً إلى استقرارها في القاهرة لمرافقة ابنها ديفيد دوبوا (الصحافي البارز في صحيفة Egyptian Gazette وقتها) بتحولات مكانية وإيديولوجية اتّسمت بالتنوع والثراء البالغين. فقد ولدت في إنديانا بوليس في تشرين الثاني (نوفمبر) 1896 وتلقّت دراسات في الموسيقى في باريس (1926-1928) وحصلت على شهادة فرنسية من جامعة السوربون (1929)، والتحقت بمدرسة الدراما في «جامعة ييل» (1938-1940) وعملت مديرة للوحدة الزنجية في «مسرح شيكاغو الفيدرالي»، ثم سكرتيرة ميدانية لـ «الرابطة الوطنية لتقدم الشعوب الملوّنة ـ NAACP» (1942-1944)، التي أسّسها زوجها مستقبلاً وليام دوبوا عام 1911 تقريباً (تاريخ صدور أول بيان رسمي لها). بعد انتقالها مع زوجها إلى غانا ليعيَّن مديراً تنظيمياً لتلفزيون غانا (1964-1966)، أسّست هناك مجلة Freedomways وكانت مساهمة ومستشارة تحرير لمجلة The Black Scholar البارزة. وعُدّ عملها «جمال عبد الناصر: ابن النيل» (1972) من أهم كتب السيرة التي وُضعت عن الزعيم المصري وتميز بالبحث المتعمّق في مصادره ومعاصرتها.

شانت أفيديسيان ــــ «الريّس» (أصباغ وصمغ عربي على كرتون ــــ 1991 ــ بإذن من صالة «روز عيسى بروجكتس»/ لندن)

خصّص المؤرخ الأميركي جيرالد هورن (1949) عدداً من كتبه لرصد سيرة شيرلي دوبوا الغنية بالأحداث كملحّنة وكاتبة مسرحية وممثلة وعازفة درامز ومؤلّفة سير ومحرّرة وروائية وناشطة سياسية. ورأى أن أغنى مراحل حياتها جاءت بعد وفاة زوجها وعملها مستشارة ومسؤولة في حكومة الرئيس كوامي نكروما في غانا حتى سقوطه في شباط (فبراير) 1966. رحلة أهّلتها لتحتلّ مكانة بارزة بين قلة من المثقّفات الأفريقيات في القرن الماضي. ارتبطت بشكل كامل بقضايا السود والإنتاج الثقافي، والسود واليسار، و«البان أفريكانيزم»، والسود وسياسات الولايات المتحدة الخارجية، والسود والنزعة النسوية، وحياة وليام دوبوا نفسه بصفته أبرز المفكّرين الأفارقة في القرن العشرين. عزّز التداخل الكبير بين الشخصي والسياسي في حياتها قدرتها على الترحال، ومغادرة بروكلين هايتس إلى أكرا في غانا (1961)، ومنها إلى القاهرة (1966)، بسهولة انتقالها إلى نيويورك في الحرب العالمية الثانية وانضمامها إلى الحزب الشيوعي الأميركي الذي كان يتمتع بقبول شعبي في ذلك الوقت بفضل التحالف العسكري بين موسكو وواشنطن؛ وإسهامها في غانا في دعم حركة «البان أفريكانيزم» ثم تبنيها «المشروع الناصري» في مصر، وانجذابها للماوية في آخر سني حياتها (توفّيت في الصين خلال رحلة علاج من سرطان الثدي 1977).

رؤية تقدّمية «تاريخانية»
قدّمت دوبوا مقالها الأبرز في أفريقيّة مصر، وصولاً إلى ثورتها، في مجلة Black Scholar (عددا أيار/ مايو وأيلول/ سبتمبر 1970)؛ حيث رصدت جذور مصر الأفريقية منذ انتقال «الإنسان الأفريقي المبكر» إلى وادي النيل الضيق، ومزجت فيه رؤية «مركزية أفريقية» معتدلة بسرد تاريخي خاضع في جوهره – للمفارقة التقليدية هنا- «للمركزية الأوروبية» انطلاقاً من بدء سرد هيرودوت لتاريخ مصر، والعصور الفرعونية وما تلاها من عصور استعمارية توقّفت خلالها عند الغزو الروماني وظهور المسيح وارتباطه بمصر ثم ارتباط المصريين بالمسيحية ورسوخ كنيسة الإسكندرية أُمّاً للكنائس الأفريقية منذ القرن الثالث الميلادي. عمدت بعدها إلى تناول «مصر الإسلامية» بسرد شابه اضطراب تاريخي (مثل الخلط بين وصول عمرو بن العاص إلى مصر عام 639 واكتمال ضمّها لدولة الخلافة والاستيلاء على فلسطين 672 عهد النبي محمد)؛ ثم فترة تعاقب العثمانيين، ووصول نابليون بونابرت «الذي استشعر، مثل الإسكندر الأكبر، عظمة مصر» لحكمها، والبريطانيين الذين جاؤوا بأساطيلهم وجيوشهم «للبقاء في مصر إلى الأبد». لكن كما سردت دوبوا في ما وصف بأنه «مركزية مصرية» تطورت لاحقاً إلى أفكار المركزية الأفريقية، جاء عبد الناصر ليخلّص البلاد من قبضتهم واستردّ قناة السويس «التي حفرها المصريون بالألم والدماء والدموع». من جميع الغزاة الذين هرعوا إليها، استوعبت مصر شيئاً ما، وشكّلت وصاغت ما أرادوه لحاجاتها، من دون فقدان جوهر المصريين.

شيرلي غراهام دوبوا في غرفتها في القاهرة (عام 1968)

بعد سرد تاريخي موجز ودالّ على انتماء «أفريقي-مصري»، تصل دوبوا إلى خلاصة فكرتها في السطور الأخيرة من المقال: «لمَ أؤكد (هنا) على أن مصر أفريقية؟ لأنّ النضال الذي تخوضه مصر، مع حلفائها، يعني في الأساس، الدفاع عن أهمّ بوابات أفريقيا ضد العدوان الإمبريالي (إسرائيل)»، وأنّ «الورثة الغربيين» للإمبراطورية الرومانية يحاولون مرة أخرى (عبر إسرائيل) تركيع مصر على ركبتيها، لكنّ جمال عبد الناصر، أول رئيس مصري للبلاد في غضون ألفي عام، نجح في كسر سلسلة سلطتهم على مصر بعدما بنوا قناة السويس لوصول سريع وسهل إلى سواحل أفريقيا الشرقية والمحيط الهندي، واعتبروا ميناء الإسكندرية مدخلهم إلى نهر النيل. لكنّ دفاعات مصر تمتد الآن في ليبيا حيث أمرت (الأخيرة) بإخلاء القواعد العسكرية التي كانت تحتلها القوات الأميركية والبريطانية لوقت قريب. إن مصر تدافع عن أفريقيا، وإذا سقطت دفاعاتها، فإن أفريقيا ستكون في خطر أن تكون تحت رحمة من يصمّمون على الهيمنة عليها وإخضاعها، كما بقية العالم الملوّن. إن القاهرة صامدة، تستند إلى الأهرامات العتيقة. في تلك المدينة يسير المرء برفقة التاريخ، وعندما أسير في شوارع القاهرة أهلّلُ: مصر هي أفريقيا».

ابن النيل
تُعد دوبوا من أبرز كُتّاب سيَر الأفارقة. قدّمت ما لا يقل عن عشرة كتب متخصّصة في السير لأبرز المفكّرين والسياسيين الأفارقة أمثال جورج كارفر، وبوكر واشنطن، وبول روبيسون، وفيليس ويتلي وغيرهم. خصّت جمال عبد الناصر بآخر مؤلّفاتها في هذا الصدد مع كتاب «جمال عبد الناصر: ابن النيل» (1972). ارتبط سردها لسيرة جمال عبد الناصر بنضج أدواتها البحثية تماماً، إذ اتسم العمل، الذي عُد من أوائل السير التي تناولت حياة ناصر باللغة الإنكليزية، بتضمّنه بحثاً تاريخياً موسعاً، وتقديراً شخصياً منها لشخصه كونه يحترم دوماً المرأة ويتفهم قيمتها ويقدّرها. بل برّرت ـــ وهي كادر شيوعي عتيد في الحزب الشيوعي الأميركي ــــ «قمع ناصر للشيوعيين باستعانته بالماركسيين كمستشارين لنظامه». لكنّ الكتاب نفسه لم يُكتب بالكامل خلال وجودها في القاهرة، كما سرد ابنها ديفيد دوبوا لكاتب سيرتها هورن، بل كان مشروعاً يصاحبها في ترحالها بين كوناكري والصين والقاهرة وبقاع أخرى حول العالم، إذ حضرت في ذهنها دوماً مرارة الانقلاب في غانا وخطورة انتقاد الولايات المتحدة وأدوارها في أفريقيا على خلفية هذا الانقلاب، مخافة التعرّض لانتهاكات من قبلها قد تصل إلى التصفية الجسدية.
وكما جاء تناول هورن لسيرتها الثرية معتمداً في الأساس على ما خلّفته من أوراق وملفات «هائلة» (حسب وصف ابنها ديفيد في مقابلاته مع المؤلف) في شقتها المطلة على النيل، وعزّزها بزيارات لمكتبات عدد من الجامعات التي درست فيها دوبوا أو تقاطعت مع أنشطتها، فإن تناول دوبوا لسيرة ناصر تمّ بإتقان كبير كما اتضح في تناول هورن لهذا العمل (الفصلان 8،9) ورصده ما تعلق بكتابته من آراء وتوجهات وممارسة عملية داخل مصر وخارجها، وظروف استكماله وما تضمّنه من آراء أفريقية فريدة في ناصر بعد استكمال تجربته بشكل تام تقريباً ومضاهاتها بما جرى في عدة دول أفريقيّة، ولا سيما غانا منذ النصف الثاني من الستينيات.

في خندق يوليو
تأتي أهمية نقد شيرلي دوبوا للصهيونية نقداً صارماً لا مجال فيه للتورية أو التمترس خلف «مواقف أخلاقية» في حقيقة كون المفكر الأفريقي الكبير وليام دوبوا من أكبر المدافعين عن اليهود بشكل عام والمتفهّمين لمنطق الصهيونية بشكل خاص في أجزاء كبيرة من حياته. وربما كان العامل الأكثر تأثيراً في بلورة نقدها ذاك، إلى جانب ما عاينته من وقائع الانقلاب ضد كوامي نكروما، ما لمسته خلال حياتها اليومية في القاهرة؛ ورأت أن ناصر أقدم على غلق مضايق تيران في وجه الإمبريالية والعدوان الغربي «وليس ضد الصهيونية (وحدها) أو الشعب اليهودي». وصُوّبت نحوها اتهامات منتظمة بمعاداة السامية واجهتها بدعوة مزيد من أقرانها الأميركيين الأفارقة لزيارة مصر ورؤية الموقف المصري المسالم بأنفسهم، ودعت إلى القفز فوق «الأكاذيب الأميركية» بشأن الدول الاشتراكية والعالم الثالث. بوجودها في القاهرة، تعمّق دفاعها عن «آخر وطن تبنّت انتماءها له»، وارتباطها به وحبها لها، ثم مساهمتها لاحقاً في المجهود الحربي لعلاج مصابي حرب أكتوبر 1973 في مستشفيات القاهرة.
اعتبرت أنّ النضال الذي تخوضه مصر هو دفاع عن أهمّ بوابات أفريقيا ضد العدوان الإمبريالي (إسرائيل)


تتجلّى أهمية موقف شيرلي دوبوا وقوته في اعتباره تراجعاً عن رؤى أفريقية تقليدية مشوّشة أو «محايدة» للصراع العربي- الإسرائيلي، بلورها زوجها وليام دوبوا حتى وفاته. فقد كان أبرز الأصوات الأفريقية وأكثرها أهمية وامتداداً زمنياً في الدفاع عن اليهود ومناهضة معاداة السامية والنظر إلى «تجربة الشعب اليهودي بعين الإكبار» حسب سرد بينامين سيفيتش، وأنه أظهر باستمرار تعاطفاً كبيراً معه، رغم ما رصده مؤرّخون من ذكره في افتتاحية دوريته الشهيرة the Crisis (سبتمبر 1933) من تعليقه على أن اليهود، بتأثير من هجوم هتلر عليهم في ألمانيا، لم يتبنوا بشكل واضح معارضة القمع ضد الأميركيين الأفارقة: عندما تكون الشعوب «الدنيا» من «الزنوج» فقط، من الصعب لفت انتباه صحيفة «نيويورك تايمز» لقضايا بسيطة من قبيل العرق، والغوغاء، والرعاع. لكن الآن، تضم قائمة الملعونين ملاك التايمز، وعندها نال الغضب منهم.
رصد هورن تصاعد حدة عداء دوبوا لسياسات الولايات المتحدة الخارجية، ولا سيما دعمها لإسرائيل، خلال وجودها في القاهرة، ما تجسّد في رفض السفارة الأميركية مراراً منحها تأشيرات لزيارة أسرتها في الولايات المتحدة. كما أنّ وجودها في مصر قادها إلى تطوير أفكار مزجت بين المركزية المصرية ونظيرتها الأفريقية في تماهٍ لافت يستحق مزيداً من النقد والنقاش. وجاءت حرب يونيو 1967 لتعزّز تصورها ذاك بتأكيدها على أنّ مصر هي أفريقيا وأن أطماع إسرائيل تتوجه غرباً في أفريقيا وليس شرقاً في آسيا، وأنه لا يمكن تحقيق السلام مع «الصهيونية إلا بتلبية المصالح المشروعة للفلسطينيين». واستندت دوبوا في ذلك إلى اطّلاعها على مصادر معلومات متباينة عن تلك الموجودة في الولايات المتحدة. هكذا طرحت دوبوا، في توقيت مهم للغاية ودالّ تاريخياً في ما بعد، رؤى بالغة التفهم والنضج لمصر الأفريقيّة ومشروع ثورة يوليو وقضاياه رغم مفارقة تزامن حضورها القوي في العاصمة المصرية مع تداعيات هزيمة يونيو، مروراً بانتصار الجيش المصري في أكتوبر 1973، حتى وفاتها في مارس 1977.

عملها «جمال عبد الناصر: ابن النيل» (1972) من أهم كتب السيرة التي وضعت عن الزعيم المصري


يمكن القول باطمئنان تامّ بأنّ تجربة شيرلي دوبوا طوال حياة ممتدة وامتزاجها بفهم عملي أوثق للمجتمع المصري وثورته وتحولاتها حتى بعد يونيو 1967، أسفرت في المحصّلة عن «الحالة المثالية» لصورة ثورة يوليو الأفريقية فكراً وتجربة وموقعاً في سياق السياسات الدولية والإقليمية. تجربة لم تحظَ بالاهتمام «العربي» الكافي ضمن اضطراب معرفي راسخ بات بحاجة ماسة إلى المراجعة والنقد وإعادة النظر إذا كانت ثمة رغبة لمزيد من الفهم المعرفي الصادق والحقيقي والدقيق غير الخاضع لتصورات «دراسية» مصرية وعربية سائدة وجامدة.