في السابق، أو في وضع طبيعي عموماً، تتم مقاربة برامج المهرجانات الموسيقية، ومنها الصيفية السياحية في لبنان، على أنها ثمرة جهود اللجنة المنظّمة والقيّمين على هذا المهرجان أو ذاك. على هذا الأساس: إمّا تتعرّض هذه الجهات للنقد، عندما يصيب البرمجة تراجعٌ نسبي في المستوى العام، أو عندما تعكّر لائحة الفنانين المدعوّين إلى المهرجان أسماء لا تليق بتاريخه. إمّا يتمّ الثناء على جهودها في حال التطوّر العام الملموس، أو إن نجح المنظّمون في تنظيم حدث كبير وصعب إنجازه (تقنياً و/ أو معنوياً).اليوم اختلفت الأمور، ومعها اختلفت معايير النقد والتقييم. منذ ثلاث سنوات، نعيش في وضع استثنائي لم يزده الوقت إلّا استثنائيةً، ودائماً بالمعنى السلبي للكلمة. لكن هذه السنة تحمل خاصّية تختلف عن الصيفَين الماضيَين وتكمن في التراجع الكبير لتأثير جائحة كورونا على يومياتنا. صحيحٌ أن ثمة موجةً جديدة تضرب لبنان والعالم، لكن العلاقة مع هذا الفيروس تغيّرت: اللقاح يحمي، وكيفية التعامل مع كورونا باتت معلومة حتى من الأطفال، وهذا ما نقل البشر من موقع ضعف إلى موقع قوّة في المواجهة، تماماً بعكس البدايات. فرغم الموجة الجديدة، عادت الحياة إلى طبيعتها في العالم (مع بعض التدابير هنا وهناك) ومنها الحياة الموسيقية الحيّة، أي المهرجانات والحفلات العامة. لا بل عادت بقوة وزخم لأسباب عدّة لا مجال للتوسّع فيها الآن (أبرزها حاجة المجتمع الحيوية للموسيقى الحية، والأهم حاجة الفنانين للقاء الناس وتقديم تجاربهم وكسب عيشهم أيضاً). بالتالي، يمكن القول، في الحالة اللبنانية، إنّ كورونا «أنقذ» المهرجانات من حَرَج عدم البرمجة أو البرمجة الضعيفة على مدى سنتَين. اليوم «ذاب تلج» الفيروس و«بانَ مرج» الأزمة الاقتصادية، أسود صافياً. الأزمة ليست جديدة، لكنها حالياً وحدها على المسرح: إنه «صولو» خاص بها في حفلة الخراب هذه.


بعد غيابها القسري الذي لم يقطعه سوى محاولات رمزية («شمس لبنان ما بتغيب»/ 2021 و«صوت الصمود» /2020)، تعود «مهرجانات بعلبك الدولية» هذه السنة ببرنامج… هنا يجب فعلاً البحث عن صفة تناسب هذا البرنامج. غريب؟ ربّما، لكن في لبنان حتى «الشيطان» ليس غريباً! ركيك؟ ربّما، لكن الركاكة تضرب المجتمع من أسفله إلى أعلاه! ممتاز؟ ربّما، لكن نسينا كيف يكون الـ«ممتاز»! أما موضوعياً، فأي برنامج لأي مهرجان يُقاس نسبةً لتاريخه، أي لخطّه في البرمجة على مدى دوراته السابقة. بالنسبة إلى «مهرجانات بعلبك»، دورة 2022 هي الأضعف في تاريخه العملاق، حتى لو أخذنا في الاعتبار بعض الهفوات التنظيمية في بعض الدورات «الطبيعية» السابقة. لكن إذا كانت تلك الهفوات تقع ضمن مسؤولية اللجنة المنظّمة، فعلى من تقع المسؤولية اليوم؟ بالتأكيد ليس على اللجنة. فالأخيرة تحاول قدر الإمكان إبقاء المهرجان حياً بالتي هي أحسن، والمسؤول عن هذا المصير هو رياض سلامة. رياض سلامة ليس رياض سلامة الشخص بل «رياض سلامة» الرمز. ففي كل لبناني «رياض سلامة» صغير. بمعنى أوضح «رياض سلامة» هو «خضر» في مسرحية زياد الرحباني الملحمية الأخيرة: أي، كل من لا يقوم بعمله على الأصول، متسلّحاً بعنفوانه المهني بعبارة «على مسؤوليتي»، ومسؤوليته هذه يتنازل عنها لصالح الغباء كلما اقترب منه القانون، فيلقي اللوم على الآخرين ويلعب ببراعة دور المغفّل، في بلدٍ يحمي فيه القانون المغفّلين. بعيداً عن «التعصيب»، فعلاً، لا نتمنّى إلّا أن تعود «بعلبك» شمس المهرجانات. نريدها جميلة كما كانت، وليس أجمل. فهي كانت الأجمل على الدوام.
برنامج «بعلبك» لهذا الصيف سهل المقاربة، إذ يتألف من أربعة مواعيد فقط ويمتدّ على عشرة أيام فقط: طرب شعبي وتراث لبناني، روك محلّي، فلامنكو، والختام هجين بين البيانو الكلاسيكي والتأليف والرقص الصوفي. الافتتاح الليلة مع سميّة بعلبكي، الفنانة الأنيقة والثابتة على وعدها لتقديم الغناء اللبناني والعربي بمستوى لائق يحترم الجمهور وهذا الفن وصانعيه. سميّة اليوم هي سميّة مطلع التسعينيات وبداياتها في غناء الكلاسيكيات الطربية، مروراً بأغانيها الخاصة وتجربتها في المزج بين التانغو والألحان العربية. صوتها مَرِن، يصلح للطرب الأصيل كما للأغنية الريفية اللبنانية، وإطلالتها في «بعلبك» لا تُعدّ بديلاً عن ممكنٍ أفضل في ظروفٍ طبيعية، ولو أنها لا تضاهي الأساطير الذين تكرّمهم في استعادتها لهم، وكلّهم مرّوا على «أدراج بعلبك». تحت عنوان «رجعت ليالي بعلبك»، تحيي سمية بعلبكي هذا الافتتاح، ترافقها أوركسترا وجوقة «جامعة سيدة اللويزة» بقيادة شقيقها المايسترو لبنان بعلبكي.
الأمسية الختامية تحمل طابعاً استثنائياً مع عازف البيانو سيمون غرَيشي والراقصة الصوفية رنا قرقاني، والمؤلف المعاصر جاكوبو بابوني-شيلينغي


يلي الافتتاح الغنائي الأصيل، موعدٌ مع الروك بإحدى نسخه المحلية مع فرقة «أدونيس» في 10 الجاري، تليها مباشرةً في اليوم التالي أمسية فلامنكو مطعّم بقليل من الجاز مع عازف الغيتار الإسباني خوسيه كويفيدو وفرقته Bolita، التي هي بالأصل فرقة كبيرة تمّ اختصارها بثلاثي يضم كويفيدو وموسيقيَّين آخرَين (عازف إيقاع ومغني). الأمسية الرابعة والختامية (17/7) تحمل طابعاً استثنائياً من حيث الشكل والمضمون، إذ يقدّمها عازف البيانو الكلاسيكي سيمون غرَيشي (سبق أن زار لبنان لتقديم ريسيتال بيانو) الذي لديه أصول لبنانية ومكسيكية ويعيش في فرنسا حالياً ويحمل جنسيّتها. غرَيشي لم يكن معروفاً على نطاق واسع حتى سجّل ديسكاً أول (الثاني في مسيرته) عند الناشر الألماني «دويتشيه غراموفون» عام 2017 بعنوان Héritages تلاه آخر بعد عامَين بعنوان «33». قبل هذين الإصدارَين، كان غرَيشي يميل إلى النمط الكلاسيكي في البيانو الكلاسيكي، قبل أن يدرك ربّما أن المنافسة قاسية جداً أمام وحوش راحلين تركوا تسجيلات مرجعية ووحوش حاليّين ما زالوا يعملون على رفع المستوى. هكذا، وعلى الرغم من مستواه المحترم (تقنياً أقلّه)، سلك في إصدارَيه الأخيرين، كما في إطلالاته الحية، طريقاً أقلّ قيوداً وأكثر شعبية (والناشر الألماني تبنّاه تحت هذه المظلّة، وليس تحت كاتالوغه الأساسي الرصين)، وهذا سبّب نفوراً منه لدى بعض الجمهور وولّد له شعبيةً لدى البعض الآخر. في أمسيته البعلبكية، سترافقه الراقصة الصوفية الفرنسية رنا قرقاني، الألمانية المولد والإيرانية/ الكردية الأصل، وكذلك المؤلف المعاصر جاكوبو بابوني-شيلينغي الذي يتمتع بأساليب غير مألوفة في صناعة الموسيقى واستخدام التكنولوجيا كعنصر فاعل في عملية التأليف، نكتشفها أكثر خلال الحفلة… إذا بقينا طيّبين!