القاهرة | أن تمتلك القدرة على نظم الشِعر وأنت من أبناء الصعيد المصري، فهو ليس مستغرباً. ويكفي أن تكون من أبناء ذلك الإقليم، لتكون مصدراً للحكمة لدى الكثير من الناس. أما أن تستطيع استخراج الحكمة من حياتك اليومية وذكرياتك كفلسفة وجودية تملأ بها أبياتك الشعرية لتُخرج ما يشبه الفلكلور المصري بشكل ولفظ معاصرين، وحكمة متجددة، وانتماء صارم للأرض والمكان والناس لتنضح أبياتك رائحة تنتمي لك فقط، فلا بد أن تكون عبد الرحمن الأبنودي.
لا شك في أنّ شخصية الأبنودي الشعرية مميّزة وغير مسبوقة. لكن ما يميّزه فعلاً هو أنّه كان أحد أهم أصوات الحلم القومي والمأساة المشتركة بين الشعوب العربية، سواء ضد الاحتلال الصهيوني، أو ضد الأنظمة القمعيّة الظالمة، أو مع المقاومة الشعبية في مصر وفلسطين والشعوب المقاومة الباسلة كافة. إضافة إلى البعد الوطني والقومي في قصائد الأبنودي، هناك أيضاً البعد الفلسفي، سواء الفلسفة الحياتيّة أو فلسفة مقاومة القبح بالجمال ومقاومة الاحتلال بالسلاح. وهناك أيضاً فلسفة الحياة والموت. فأحد أشهر شعراء العامية المصريين مهموم بالزمن والتاريخ ومسارات الحياة التي تتعدد بالإنسان ليصل دائماً إلى الموت الذي قال عنه الأبنودي الكثير.
عبد الرحمن محمود الأبنودي هو نجل الشيخ محمود الأبنودي، المأذون الشرعي لأبنود بمحافظة قنا (الصعيد)، والسيّدة فاطمة قنديل التي كانت ملهمته في كثير من قصائده. وكثيراً ما كان يخاطب والدته في بكائياته كثيراً، كما حدث في القصيدة التي نظمها في رثاء رسام الكاريكاتور الفلسطيني الشهيد ناجي العلي: «أمّايا وانتي بترحي بالرُحى على مفارق ضُحى وحدك وبتعددي على كُل حاجة حلوة مفقودة ماتنسينيش يمّا في عدّودة عدّودة من أقدم خيوط سودا في توب الحزن لا تولولي فيها ولا تهللي وحطّي فيها إسم واحد مات كان صاحبي يمّا... وإسمه ناجي العلي» ولد الأبنودي عام 1939 في قرية أبنود التي تتسم بالبساطة في مستوى المعيشة وأسلوبها. تلك البساطة التي لا تتعلّق باستسهال الحياة بقدر ما تتعلّق بالتلقائية وحب الحياة. تلك الحياة القروية التي أنجبته مع رفيق عمره الشاعر الكبير الراحل أمل دنقل الذي ولد في مركز «فقط» في المحافظة نفسها عام 1940.
«إوعى تحسبها حساب. ده زمن يوم ما يصدق، كدّاب»، عبارة قالها الأبنودي على لسان العمّة «يامنة» في قصيدته التي كتبها عن لسانها حينما قابلها للمرّة الأخيرة قبل موتها. تلك القصيدة التي تحتوي على كنز من الحكم وخلاصة القول الصعيدي بشأن الحياة والموت والشباب والشيخوخة، وهي مزج بين النصيحة والبكائية والمزاح.
كان للأبنودي نشاطه السياسي وميوله التي عارض من خلالها، واعتقل وكتب في ذلك الشأن. فهو من القلائل الذين كتبوا في وصف المعتقل والسجن وفلسفة التقييد والأمل والظلام والاستشهاد. ومن أشهر ما كتب في هذا الخصوص قصيدة «الأحزان العادية» التي كان يرددها شباب مصر في سيارة الترحيلات أثناء نقلهم إلى مقر السجن. والعبارة الشهيرة التي يرددها الجميع حتى الآن هي: «إحنا الصوت ساعة ما تحبوا الدنيا سكوت».

بعد ثورة «25 يناير»،
أطلق الشاعر المصري إصدارات تضم قصائد مثل «لسة النظام ماسقطش»
ومع نكسة 1967 والاجتياح الإسرائيلي لشبه جزيرة سيناء وتوغله في القدس والضفة في فلسطين وانهيار الحلم الناصري الذي كان يعيشه الشعب بالكامل، ساد الصمت الكئيب المطبق بين كل مثقفي ومبدعي مصر الذين عاشوا الحلم ونقلوا الأمل للجميع، بينما انفجر الشارع هاتفاً «هنحارب... هنحارب». حينها، كتب الأبنودي قصيدة «عدّى النهار» لحّنها الموسيقار الراحل بليغ حمدي وغنّاها عبد الحليم حافظ خاتماً إياها بـ«أبداً بلدنا للنهار، بتحب موّال النهار، لمّا يعدّي في الدروب ويغنّي قدّام كُل دار»، باعثاً رسالة أمل باقتراب النهار والنصر. وهو ما حدث بالفعل بعد 6 سنوات، إثر نجاح القوات المسلحة المصرية في الانتصار على قوات العدو وإعادة سيطرتها على شبه جزيرة سيناء مجدداً في تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 1973.
ثنائيّة حمدي والأبنودي الفنية كانت من الأشهر في تلك الفترة، إذ تعاونا في عدد من الأغنيات لـ«العندليب الأسمر»، ووردة وصباح ومحمد رشدي وشادية. لكن بقيت الأغنية الوطنية محفوظة لعبد الحليم. فبعد هزيمة 67، لم يكتفِ المبدعان بتقديم «عدّى النهار» عن ضياع سيناء وقتها، بل قدمّا أيضاً بحنجرته أغنية «يا كلمتي» عن القدس وطريق الآلام من خلال إسقاط الوضع القائم آنذاك على قصة عيسى المسيح: «على أرضها طبع المسيح قدم على أرضها نزف المسيح ألم في القدس في طريق الآلام وفي الخليل رنت تراتيل الكنايس وفي الخلا صبح الوجود إنجيل» لائحة أعمال الأبنودي طويلة، غير أنّ أشهر دواوينه هي «الموت على الأسفلت» (1988) و«الأحزان العادية» (1981) و«سيرة بني هلال» (جمعه ونشره بين 1988 و1991) و«جوابات حراجي القط» (من 1969 إلى 1985)، فضلاً عن العديد من الإصدارات المميزة. إصدارات تضم قصائد «الميدان» و«لسة النظام ماسقطش» و«ضحكة المساجين» التي أطلقها بعد قيام ثورة «25 يناير» في مصر. لكن ما أثار حفيظة عدد من الثوّار أخيراً هو إعلان الأبنودي تأييده للمشير عبد الفتاح السيسي في معركة رئاسة الجمهورية من منطلق أنّ الشاعر الذين ترعرعوا على هتافاته وقصائده، لا يجوز له الانحياز إلى سلطة أو الوقوف إلى جوارها.


بعد وصول مرشحه إلى سدّة الرئاسة المصرية، يحل عبد الرحمن الأبنودي ضيفاً على زاهي وهبي في حلقة الليلة من برنامج «بيت القصيد» («الميادين» ــ 20:30). في المقابلة التي أجريت عبر الأقمار الإصطناعية بعد تعذّر اللقاء في بيروت، سيتطرّق الشاعر إلى مواضيع عدّة تتنوّع بين السياسة، والصعيد، والفن، والثقافة، والتثوير، والتطوير، والتنوير.