محنة للّغة بحدّ ذاتها

  • 0
  • ض
  • ض

الحديث عن حسن عبد الله، وبخاصة في اللحظات التي فُجعنا فيها بنبأ رحيله، هو أقرب إلى المحنة منه إلى الامتحان، وهي ليست محنة لي فحسب، إنّها محنة للّغة بحد ذاتها، فكيف للغة أن تتحدث عن حسن عبد الله بصيغة الغائب، هذا الذي لم يكفّ منذ أكثر من خمسين عاماً عن أن يخلخلها من الأعماق، على أن يغيّر وجهتها، على أن يستخدمها بحذق وبمهارة وبصدق قلّما استطاع أحد مجاراته. حسن عبد الله ولد لكي يكون شاعراً فحسب، هو الشعر مصفّى، هو الشعر خارج حالات الزخرف، خارج البلاغة، خارج الصنيع، خارج الافتعال. الشعر الذي ينساب مثل عسل البراري على صخور الزمن. الشعر الذي يتقطّر بصفاء بالغ، مثل قطرات الماء التي تسقط من حلمات الكهوف في جبال لبنان النائية. ولذلك، كان أكثرنا عذوبةً، أكثرنا صلة بينابيع القصيدة الأم، أكثرنا شفافيةً. كان شاعراً فحسب، متوارياً، متواضعاً، خجولاً، آثر البقاء دوماً في الظل، مع أنّ نصّه الذي يُكتب في الظلّ كان أكثر إظهاراً من نصوص الكثير من شعراء الإعلام والضوء. منذ قصيدته «صيدا»، مروراً بـ«سقوط المهرّج» وبـ«قبر حرب» وبـ«الدردارة» وحتى آخر مقطوعاته، كان يقطر شعراً، يدخل إلى النثر العادي، فينصب له فخاخاً كما كان يفعل بعصافير سهل الخيام، ويصطاده كما تصطاد الغزلان في البراري. وكان، بلمسة ماهرة، بذكاء غير عادي، يحوّل النثر إلى شعر، بكلمة واحدة من قلمه الماكر. أعتقد بأنّ حسن عبد الله لم يُنصف ولم يأخذ حقّه من النقد، ولم يتمّ تظهير تجربته، ولم يعمل هو على ذلك أبداً، وهذا العصر الزائف ينتصر دائماً للظلال، الذي ينتصر لمن يسوّقون أنفسهم، للذين يتعاطون تجارة السوق في علاقتهم بالشعر... لم يكن حسن واحداً من هؤلاء، بل كان يعرف أنّ اليوم الذي يسلّط فيه الضوء على شعره ويُعطى هذا الشعر حقّه ليس بعيداً.

0 تعليق

التعليقات