على مدار التاريخ السينمائي، وقبل هيمنة عصر الإيدولوجيات الفكريّة واللوبيات السياسية على صناعة السينما، اكتسبت الكوميديا جزءاً من قيمتها الفنية عبر قُدرتها على النقد المُباح، فلا يُمكن التعاطي مع الكوميديا بحرجٍ وجديّة، ولا يُمكن نقدها بمعايير النوعيات الأخرى وتجاهل خصوصيّتها التي تمنحها القُدرة على تعرية الذات والمُجتمع من خلال استعارات توفر لها نمطاً يتجاوز المُباشرة والابتذال والوعظ الذي أصبح سمة العصر. بيد أنها ـ رغم خفّتها ــ تكون ثقيلة في نقدها، لاذعة في سُخريتها، وهذا ما يخلق تجربة تجمع بين جدية الموضوع والأسلوب الساخر الكاريكاتوري الذي يُضخّم ويقزّم شخوصه بحريّة داخل النص والمُنتج البصري، مُخفّفاً من ضرورة الالتزام بحدودٍ معينة.يستهلّ الثُنائي الأرجنتيني غاستون دوبرات ومريانو كوهن فيلمهما Official Competition من نُقطة أكثر عمومية، تتحرك من مفهوم الوعي الجمعي والمنظور الاجتماعي لرجال الأعمال كرموزٍ للثراء الفاحش وحياة البذخ التي تمنحها لهم الامتيازات في المُجتمعات الرأسمالية. كل شيء يبدأ بخاطرةٍ تُداهم رجل الأعمال الهرِم هامبيرتو سواريز (الممثل خوسيه لويز جوميز) فيما يحتفل بعيد ميلاده الثمانين، ويُدرك من خلالها حقيقة الزمن الذي خلّف هذا الجسد وتلك الأقاويل والآراء. ينبعث كبرياء هامبيرتو كرجل يحاول مجابهة الزمن وتخليد اسمه في الذاكرة الجمعيّة.
يُفكّر هامبيرتو في بناء جسرٍ يحمل اسمه، بيد أن كُل الاختلاجات الفكرية تنتهي فجأة عند الفن، السينما على وجه الخصوص، كمُنتج إبداعي يسير بمُحاذاة الزمن ولا يصطدم به، فيُقرر صُنع ما يُسميه أفضل فيلم، يشتري حقوق رواية لكاتبٍ حصل على جائزة نوبل، تدور حول أخوين يقتُل أحدهما الآخر ويأخذ هويّته، ويأتي بلولا كويفاس (الممثلة بينيلوبى كروز) مُخرِجة طليعية تجريبية، حصلت على سعفة «كان» الذهبية وأسد «البُندقية» الفضي، ويمنحها الصلاحيّات الكاملة لتحويل الرواية لمُنتج سينمائي بميزانية مفتوحة. تختار لولا نجمين من نجوم السينما الإسبانية: الأول هو إيفان توريس (أوسكار مارتينيز) سيّد المسرح وأستاذ التمثيل، والثاني هو نجم المُجتمع وأحد أشهر وألمع الممثلين الإسبانيين فيليكس ريفيرو (أنطونيو بانديراس).
يتحوّل الفيلم إلى عالم داخل العالم، يُخلَق داخل إطار المُنتج الحقيقي ويشمله في مُجمله الإبداعي. وهذا النوع من الأفلام يوفّر ميزة الاندماج بين الحقيقي والخيالي، ينصهر الحقيقي والمُتخيّل في خانة الإبداع وتذوب الفوارق والخطوط الرئيسية بسهولة، لا يبقى سوى الإحالات والإشارات، ما يدفع المُشاهد أكثر نحو العُقدة الرئيسية، لأنه يرى عملية الخلق نفسها، ويواجه إشكاليات الصناعة ولو بشكل كاريكاتوري، فيتعرّض للعالم في طور التكوين ويشهد الأشكال الأولية المُفكّكة، فالفيلم نفسه يدور حول عملية الخلق والصناعة، ولا يتقيد بمنظور يُثمّن العمل السينمائي ويُقدّس الصنعة والعملية الإبداعية. رُبما يبدو كذلك في بعض الأوقات، ولكنه في الحقيقة يسخر منها عبر صُنع المُفارقات والتركيز على المتناقضات الداخلية التي تُخالف الرؤية العمومية للفنان وللصناعة. تدور هذه السردية في البروفات السابقة لتصوير الفيلم، وتعتمد على ثالوث الشخصيات المذكورة. تُهيمن المُخرجة لولا على أغلب أركان الحكاية، ليس بالحوار فقط إنما بالرؤية، فهي التي تُحدد ماهية العلاقة وتُعيّن الغايات والوسائل للشخصيتين الرئيسيتين. ومن ذلك المُنطلق تستمد قيمتها كمُسيّرة للأحداث وكاشفة لما وراء الأداءات الفردية، وتحاول مع الوقت الوصول إلى الصيغة والتعبير المُناسبين. تُمثّل لولا إشكالية الفنّان المُمارس للسُلطة داخل الإطار الفني، تُحفّز دائماً شعوراً بالاستحقاق يسوّغ لها احتكار الصواب، يُمكن رصد هذه الحالة خلال مشاهد عدة داخل الفيلم، إعادة الجُمَل وإجبار المُمثل على البُكاء خلال البروفات، وإعادة مشاهد بسيطة أكثر من مرّة، يُذكرنا على استحياء بالمُخرِج الأميركي العبقري ستانلي كوبريك وهوسه بالكمال السينمائي داخل عوالمه.
يتحرّك الفيلم من وجود الفنان ذاته، وتتمركز سرديّته حول كبريائه الفنية. منذ تلاقي فريق العمل داخل الغُرفة، نُلاحظ تضخم الأنا لدى كُل فنان بشكل مُستقل يُغذي من خلاله رؤية خاصة تُثبت أنه الأفضل، ومن هُنا تنطلق لُعبة المُقارعة بين فارسين أحدهما ضد الآخر، بيد أنهما يُحاربان طواحين الهواء مثل دون كيشوت، فهذا التنافس المُنبعث من تضخم الأنا يعمل ضد سيران الفيلم نفسه. وهُنا الطامة الكُبرى، فإذا كان هذا الصراع دونكيشوتياً وكاريكاتورياً بامتياز، فما تقوم به لولا سلطوي واستبدادي، بعدما قيّدتهم وحطمت جوائزهم وميدالياتهم لكسر كبريائهم السطحية. ولم تكتف بذلك، بل حطمت جوائزها الخاصة هي الأخرى. تلك النزعة نحو الديكتاتورية في الفن، والانهزام التام أمام موجات الشخصية، يُفترض ــ بالنسبة للمُخرجة لولا ــ أن تُحرر الفنان من غروره، بيد أنها تُغذي غضب فيليكس وتُشعل كبرياءه أكثر، لكن في قالب ساخر. لا يتوقف الأمر عند ذلك. تتلاعب لولا بشخوصها لتحاول صهر قواهم التمثيلية داخل الشخصيات، ولها في ذلك أكثر من مسلك، فتجعلهما يتمرّنا أسفل صخرة ضخمة بوزن طن محمولة على ذراع رافعة حديدية، وبعد أن ينتهيا من البروفة، يفطنان للُعبة. إنها مُجرد مجسم أجوف، ومع هذا النوع من المواقف والحوادث، نُلاحظ رد فعل مُختلفاً من قبل كل شخصية، ففيليكس يأخذ صورة مع المُجسم لغرض الاستعراض على مواقع التواصل الاجتماعي. أما إيفان فيتضايق ويشعر بالإهانة المكتومة. يُصدّر الفيلم فيليكس كشخصية ابنة عصرها، وليدة الرأسمالية ومواكبة للحداثة والتكنولوجيا. أما إيفان، فهو النقيض، الصورة الكلاسيكية للفنان، يتسم بحضور رزين ومعرفة موسوعية، لكنّ الاثنين يشتركان في الأنا المُتضخمة، خصوصاً عند حضورهما أمام المُخرجة. فالوجود هُنا يُمثل الفنان داخل كلّ واحد، بعيداً عن الحياة الاجتماعية. كلاهما يود أن يُثبت أن منهجيته وإيديولوجيّاته الخاصة في الحياة، هي المسار الصحيح لإنتاج الفنان المثالي. إذاً فالصراع هُنا إيديولوجي ساخر، الرأسمالية أو الاشتراكية، الثراء الفاحش أم العدمية، الانبهار الشكلي أو الكينونة، كُل هذه أشياء يسخر منها الفيلم، تحت مطرقة الكوميديا.
وإذا دقّقنا هنا، سنلاقي الأحداث أشبه بخفقات ونوبات، لا تُخلّف أثراً حقيقياً على الشخصية، لكنها تُمثل جزءاً من عملية الصناعة، فالفيلم لا يهتم للحبكة بمعناها الكلاسيكي، بل يضع نُقطة بداية ونقطة نهاية، وبينهما مجموعة من الأحداث التي تبدو عرضية، لكنها تستمد قيمتها من وجود الفنان نفسه، لأنها جزء من سياق العملية الإبداعية، إلى جانب قدرتها على توليد الكوميديا بشكل لا يبدو مُقحماً أو مبتذلاً. مع ذلك، فالفيلم لا يؤسس لأكثر من طبقة سردية، ويعتمد على خط سردي واحد يسير بمحاذاة الفيلم الآخر ويتعرّض له في بعض المشاهد، إلى جانب حشد من الأحداث العرضية، ويعوّض ذلك بالتمثيل الممتاز لمجموعة من نجوم الصف الأول. خبراء يخلقون الدراما داخل ذواتهم في المقام الأول، ويبنون ذروات ابنة لحظتها من خلال انفعالات أدائية مميزة، تولّد لحظات كوميدية مميزة.
رغم القصور القصصي في بناء سردية مُتقنة والإخفاق في تطويرها خلال الحكي، بجانب الاعتماد الكلي على كبرياء الفنان والتنافسية داخل إطارات تتعاطى مع منهجيات فنية مُتعددة؛ لتحفيز الحكاية ودفعها نحو الأمام، وانحصار الحكاية بالعلاقة بين المُمثلين، خصوصاً خلال النصف الثاني من الفيلم، حيث ركدت السردية، واقتصرت على المنطقة الآمنة التي تعرّض لها النصف الأول من الفيلم، إلا أن المُشاهد لم يشعر بالفجوة السردية أو انخفاض الإيقاع. يعود ذلك إلى التوظيف الجيد للعناصر السينمائية المُختلفة، بدءاً من تصميم الإنتاج السريالي لآلان بيني الذي يوحي بمناخ عام من الغرائبية في دمج الألوان مع مواقع تصوير تتسم بالبساطة والأناقة، إذ يُذكرنا ببعض أفلام بيدرو ألمودوفار. أضف إلى ذلك تطويع عُنصر تصميم الملابس للتعبير عن شخصية لولا المعقّدة بطريقة غريبة وجذابة، فآثرت مصممة الملابس واندا موراليس استخدام تصاميم مركبة توحي بمكنون الشخصية الغامض والملتبس، وتُضيف له بُعداً مادياً ذا تأثير واضح على تعاطي المُشاهد مع الشخصية، فضلاً عن دور المُخرجين ومدير التصوير أرناو فالس كولومر وإدارتهما الجيدة للممثلين في موقع التصوير.
فيلم «المُسابقة الرسمية» يجسّد الفنان في أسمى مراتبه ثُم يسحقه، يرصُد وجوده كأداة وكمُحرّك وكخالق، ثم يشرّحه بمنهجية الكوميديا، يغور في أعماقه، يُعريه أمام الجميع بالسُخرية، يمنحه كل شيء وينزع عنه الجدية، فيُصبح في موقف رمادي مُلتبس أمام المُشاهد، ويُصبح السؤال عن ماهية الفنان وصفاته حاضراً على الساحة، وإلى أي مدى تغيّر تحت وطأة الرأسمالية والتسليع التجاري للسينما، ثمة سؤال يُطرح، ولكن لا يُمكن أخذه على محمل الجد.