المساحة المتوفرة لهذه المقالة أضيق من الخطيئة. الكلام كثير وعدد الكلمات لا يسمح بالتمادي ولا بالإسراف. لا حيلة تنفع لتجنّب حبل السرد الطويل سوى أن تكون الكتابة بالشدّ والعصر، بجعل النص متقشّفاً، ضغطه فزمِّه فتكثيفه، إنما يبقى الكثير ليُكتب لأن هنالك المزيد ليُقال. مقابلة غسان سلهب، من حيث القيمة، تشبه مشاهدة أفلامه. وأفلامه تحتاج إلى النقد والكتابة والصحافة. طبيعة الفن الذي يخلقه سلهب، يجترح، في تأثيراته الخارجية، التقاء هذه التقاطعات، ولهو أمر طبيعي أن يحتاج بالمقابل إلى مساحة وافرة تفي المساحة التي يُتيحها عندما يُبدع فناً. إذاً، تكمن الفكرة الرئيسية كالآتي. في الموضوع: جلسة مناقشة مع المخرج اللبناني الذي لا ينتمي لأي سائد، أو مدرسة، أو وسط فني، في مسائل يمكن تصنيفها بأنّها بائتة. بعضها بات طيّ النسيان، أخرى منبوشة من القبور، والتحدث عنه وعن أفلامه ــ هما غير منفصلين أساساً ــ وبالتالي الحديث عن السينما أو «سينماه»، بأقل قدر من السينمائية، لكتابة مادة صحافية تبغى أن تكون نقدية.المناسبة: فيلمه الجديد «النهر» الذي سيُعرض في «أيام بيروت» (17/6) بدون ذكر أي تفصيل متعلّق بالموضوع أو بالمناسبة، بل بأسلوبٍ مضمر ومتفلّت كما يُجيد فعله بإتقان، وبعد سلام سريع مرفق بتعليق عابر قام به عند سماعه صوت طائرة مدنية تحلّق على علوّ منخفض «أصبح صوت الطائرة عنصراً من أفلامي». بدأ الحديث معه، بانسيابية سائلة، أسرع من الوقت. الفيلم بالنسبة لسلهب بداية لا نهاية لها. حركة أشبه بمدّ اليد عند المصافحة وترك الكفة مفتوحة. الحتمية غائبة عن معجمه وكذلك الموضوعات. إذا كانت السينما، بوجهٍ منها، وسيطاً تعبيرياً يجمع بين المخرج والمُشاهِد، فعلى الأخير أن يلاقي الأول في منتصف الطريق ليكمل نسج القصة المسرودة لأنها لا تُنجز بدون إضافة ذاتية قادمة جرّاء المشاهدة. المُشاهد في هذه الحالة ذات فاعلة لا متفرجٍ. «المعنى» عند سلهب، بلام التعريف أي بشكله الكلّي كجوهرٍ محكوم بالجمود، يعدّه من الطلاسم. المعادلة عنده مقلوبة. بما أنّ الواحد هو نفسه ولا يمكن أن يكون مكرراً، فالأمر ينطبق، بديهياً، على المشاهِد. وعليه، مثلما يختلف الانطباع الذي يولّده الفيلم عندما ينتهي، من عين إلى أخرى، يشتق من هذا الاختلاف أيضاً، اختلاف مُضاف، يصب، بدوره، في استخراج المشاهِد لمعناه المتفرّد وتأويله الخاص للفيلم. هكذا تكتمل المهمة وتُختزل كالتالي: توليد للكثرة ورفض الإذعان للمعنى الأحادي كما هو رائج في عالم الفرجة (سينما الاستهلاك). أما في ما يخص البداية في أفلامه، فهي أشبه باستهلال القصيدة عند الشاعر. تأخذ البداية طابعاً يتماهى مع طبيعة ثيماته (العزلة، الغياب، الحرب، الذاكرة...) فتجيء فاقعة، أحياناً فجّة، وغالباً صادمة. لكن الخط الكرونولوجي في البناء السردي غير مهم عنده، فيما ينصب جلّ اهتمامه في توظيف عوامل أخرى كالمكان، والصوت، والشخصيات. واستطراداً على ما أتى ومعطوفاً عليه: إذا اتسّمت أفلام الأخير بسمعة التعقيد، أو «سمة» الصعوبة، يتحمّل مسؤولية ذلك كل من خليل (أشباح بيروت) وباقي أبطاله. كانت مارغريت دوراس تكتب القليل وتحذف الكثير. كتابة اصطلحت بـ «الحذف والمحو». هكذا، يبقى المعنى مكتنزاً، وسرّ القصة مختمراً، فلا يطوفان على العلن بدون أن يعلن القارئ عن قراره إذا ما أراد البوح أو الكتمان. ثلاثية غسان سلهب، التي ستكتمل بعد عرض «النهر» (يسبقه فيلما «الجبل» و«الوادي») كباقي أعماله، مرتكزة إلى ثنائيات نقيضة «غياب/ حضور»، «السلم/ الحرب»، «الذاكرة/ النسيان»، تترك وراءها فراغاً، أو هامشاً أبيض، في انتظار من يملأه. على هذا النحو، يتجلّى العمل الفني كورشة تجريبية يتعزز فيها التساؤل والتردّد واللايقين بينما تختفي الأجوبة الجازمة والقصة الحاسمة والخلاصة الوعظية المقدّسة. قفزٌ فوق المنطق بكافة أشكاله، بدءاً من العلة وصولاً إلى النتيجة، لتبقى الوجهة عرضة دائمة للالتفات والحركة المتوترة اليقظة وللاحتمالات. «السباحة عميقاً وبعيداً ولو أودت بي للغرق» حسب قوله. على هذا المنوال، فخيارات جذرية كهذه تسمح للسينما بتجاوز نفسها، إذا ما اعتبرت وسيطاً فقط، لتغدو نزهة طويلة غير آبهة بمصيرها. رحلة بحث وتنقيب وتفتيش، عن الذات والآخر، وعن الذات في الآخر، من «الجبل»، مروراً بـ «الوادي»، نزولاً إلى «النهر». يعرّف سلهب فعل الدخول على أنه مرادف لفعل النزول. ويضيف أن الكلمات/ المفاهيم الثلاثة («الجبل»، «الوادي»، «النهر») تنضوي في فلك واحد هو الطبيعة العضوية. كما تتلاقى دلالياً في الحيّز الميثولوجي. هل يستعمل سلهب الصورة السينمائية هنا كاستعارة تحيل إلى درب الجلجلة، لكن بطريق معاكسة، وذلك بمسار هبوطي وليس صعودي؟ هل «النهر» هنا يشكل الممر الإجباري الذي يؤمن التطهير (Catharsis) من المقدّس الشاهق (الجبل) الذي لا يتطابق مع الأرضي المدنّس (الوادي)، فيتم التخلّص من الذنب؟ كل ما نعلمه أن قصة «النهر» تقوم على انقطاع في الحب بين رجل وامرأة، وكيف أنه بتبدل العلاقات، تضمحلّ حالة المألوف وتحلّ مكانها حالة الجفاء ولو كان صاحبها لا يتعمد البعد أو البرودة الفظّة. نعلم أيضاً أن مياه النهر تجري بسلاسة، وأنّ هناك صوتاً للطائرات، وهذا كافٍ.

* «النهر»: س:21:30 مساء 17 حزيران ـــ «سينما سيتي» (أسواق بيروت)