قبل أسبوع، مرّ عيد ميلاد الفنان القدير محمد جمال (24 أيار/ مايو 1934)، ذلك الصوت الذي أطرب وأشجى وأبدع وأعطى الكثير من الجمال والتميّز للفنّ، فغرف المحبة من القلوب التي لا تزال لغاية اليوم مفعمةً بتلك النفحات الجميلة من ذكريات أغانيه. بنى محمد جمال ذاكرة فنية شعبية كبيرة، وكان رقماً صعباً في الساحة الفنية العربية غناءً وتمثيلاً وتلحيناً، فكان نجم حفلات وسهرات الستينيات والسبعينيات من المحيط إلى الخليج. قارع بنجوميّته أسماء وازنة لها ثقلها في المشهد الفني العربي، وأحيا العديد من الحفلات في سوريا ومصر والكويت والأردن وأميركا وكندا وأستراليا وغيرها.

أدرك محمد جمال مناطق التميّز في صوته، فكان الأقدر على فهم خلطة النجاح. عند مراجعة «ريبرتواره» الكبير، نجد بأنّ معظم أغنياته الشهيرة التي لا تزال باقية معنا، هي من ألحانه. شكّل مع صديقه الشاعر اللبناني الراحل ميشال طعمة ثنائياً ناجحاً، فكان طعمة «الحرّيف» في التقاط الكلمة الشعبية التي تُحاكي حياتنا اليومية، نازعاً عنها التكلّف، وفارضاً سطوة البساطة في الكلمة، لتكون ألحان محمد جمال، مفتاح الدخول لقلوب الجماهير.
أبرز مثال على هذا التعاون كانت «سيارته أكبر وفلوسه أكثر/ بس قلبي أكبر/ وحناني أكثر/ أكبر من سيارته وكنوزه وعمارته/ أكبر وحياتك أكبر»، هذه الأغنية التي صاغها محمد جمال بألحانه كانت خلطة من الواقعية العاطفية التي يتكلم بها معظمنا لغاية اليوم. «بدي شوفك كل يوم يا حبيبي ولا تغيب عني ولا يوم يا حبيبي» أغنيتهما الأشهر تزداد توهجاً كلما توغّلت في الزمن، إلّا أنّ محمد جمال كان يفضل دوماً «آه يا أم حمادة». إذ اعتبرها «وجه السعد» عليه، فعليها رقصت كل «ديسكوتيكات» العالم العربي ذلك الزمان، وأحدثت ما يشبه الثورة الفنية، فاستطاع جمال بحدسه الفني العالي أن يوقن بإمكانية نجاح أغنية Darla dirladada عند تقديمها بنسخة عربية. ومَن كان الأجدر بالتقاط روح كلمات الأغنية أكثر من ميشال طعمة؟
لم تقتصر نجاحات الثنائي على تلك الأغنيات، بل ازدانت مسيرتهما بـ «قسم شرقي غربي»، و«مزيكا يا مزيكا»، و« «حملتك سلامي.. يا زهر الربيع.. لأصحابي وأحبابي.. وأهلي والجميع وانشالله بسلامة بتوصل يا سلامي وعالدرب ما تضيع» وغيرها مثل «بالقمر لابنيلك بيت»، و«حبيتك إنت وبس»، «قولي لإمك» وغيرها.
اسم آخر عانق ألحان محمد جمال وصوته بكلماته الجميلة هو شفيق المغربي. تعاونا معاً في أغنية من أرق وأعذب الأغنيات الشعبية اللبنانية وهي «ما عندي مال إعطيكي ولا عندي جاه إهديكي، عندي هالقلب يا قلبي وما بفكر إنو بيرضيكي»، بالإضافة إلى أغنيات مثل «علالي وقصور»، و«لالا اللولي لالا»، و«عالشوق بعتلك».
تعاون محمد جمال أيضاً مع الشاعر جورج خليل في أغنيات نالت نصيباً واسعاً من الشهرة مثل «الدنيا حب وعمر الحب ما بيفهم بالهوية، قلبك شاب بتبقى شاب ولو عمرك فوق المية»، وأغنية «غيابك طال شغلت البال كيف الحال طمنّي»، و«يسعدلي صباحو كل ما رف جناحو، ويا طير إلّي رايح رايح سلم علّي راحوا راحوا». كما لحن محمد جمال لنفسه من كلمات عدد كبير من شعراء تلك المرحلة أمثال موريس عواد (عالمحطة) و عبد الجليل وهبة («بيّي كان موصيني»، «ناطرة السرفيس»، «لو جننوني») وعصام زغيب (هيه هيه يابا).

الثنائي الأشهر
من ثنائيات الشعر واللحن والصوت إلى ثنائيات الغناء، شكّل محمد جمال حالة استثنائية مع طروب في أغنيات بارزة «من فضلك يا ست البيت»، و«أنا درويش»، و«خبرني كنت فين»، «اطلبي وتمني»، «التلفون»، وتصف طروب تلك المرحلة بأجمل أيام حياتها، إذ تزوجا بعد علاقة حب كبيرة. لكن طموح كلاهما الفني كان سبباً في ازدياد المشكلات، ما أدى إلى إسدال الستار على علاقتهما بعد عشر سنوات، لتستمر بعدها الصداقة بينهما. عن ذلك، تقول طروب بأنه قبل زواجه من امرأة أخرى، أرسل لها برقية يسألها رأيها في الأمر، دليلاً على استمرار الصداقة.
لعلّ موهبة محمد جمال في التلحين كانت تُضاهي موهبته الصوتية، إذ يعتبر من أصحاب البصمة الراسخة في تجديد الأغنية الشعبية اللبنانية ومزجها باللحن الشرقي الأصيل. هو من أوائل من أدخل الدرامز إليها، كما يسجّل له أنه قدّم للفنانة سعاد حسني أول لحن تغنيه في فيلم وهي أغنية «إحنا التلاتة» من فيلم «ه 3» للمخرج عباس كامل مع رشدي أباظة وطروب.
ورغم أنّ رصيده الغنائي الأكبر كان من ألحانه لنفسه، إلا أنّه غنى أيضاً من ألحان الياس الرحباني في «ساعة وغنية»، و«كنا أنا وانت نتمشّى عالطرقات»، ومن ألحان الأخوين رحباني «إجا الصيف»، و«المطارات»، و«انت والرقصة»، وألحان رفيق حبيقة «يا جمال ويش محمل»، و«هالليلة هالليلة»، و«يا حلوة» و«رحتى رحتي» من ألحان صبحي النحاس وغيرها.

البدايات
محمد جمال مواليد مدينة طرابلس 24 أيار (مايو) 1934. ظهرت مواهبه الغنائية باكراً، إذ تعلّم عزف العود على يدَي والده. في الحفلات المدرسية، بدأ يغنّي الأناشيد الوطنية وأغنيات كبار المطربين، لينطلق بعدها بخطوته الاحترافية الأولى في الإذاعة اللبنانية عام 1954 مع تحضيره لحنين أُعجب بهما آنذاك الموسيقار حليم الرومي، فنصحه بالاكتفاء بالتلحين دون الغناء، لكن ثقته بموهبته لم تخبُ، فأصرّ على الغناء حتى تم قبوله بعدها كمطرب وملحن في الإذاعة اللبنانية.
شكل ثنائياً ناجحاً مع صديقه الشاعر الراحل ميشال طعمة

عقب ذلك، سافر إلى القاهرة عام 1956، ودخل السينما المصرية بفيلم «الأرملة الطروب» للمخرج حلمي رفلة مع كمال الشناوي وليلى فوزي وزينات صدقي، و«ه 3» و«مسك وعنبر» (1973) للمخرج أحمد ضياء الدين مع سعاد حسني ونبيلة عبيد ودريد لحام. ثم اتجه إلى السينما اللبنانية مع المخرج سمير الغصيني بأفلام «الأسيرة»، و«نساء للشتاء»، ثم عاد إلى السينما المصرية عام 1976 مع فيلم «الكل يحب... شروال وميني جوب» للمخرج محمود فريد مع نور الشريف وناهد شريف. في هذا الفيلم، قدّم أغنيته الشهيرة «علاوي متل القمر علاوي».

عالم التلفزيون
ومن السينما إلى التلفزيون، شارك جمال في مسلسل «شارع العز» لايلي سعادة ومحمد شامل عام 1969، و«العائلة السعيدة» لإبراهيم خوري ومحمد شامل عام 1973. كما قدم مسلسل «قصر الحمراء» لإيلي سعادة ونزار مؤيد العظم عام 1971. في هذا العمل، شارك تمثيلاً، لكن أيضاً قدّم العديد من الأغنيات التي لحّنها لنفسه. كذلك، لحّن لشقيقته فاتن عدداً من الأغنيات التي تم تركيب صوتها لمارسيل مارينا المشارِكة في العمل.
يُحسب لمسيرة محمد جمال الفنية بأنها زاخرة بالأنماط الفنية المختلفة. بالإضافة إلى الشعبي، غنّى القصائد مثل «يا من به أنا مغرم، ارحم فمثلي يرحم». كما صدح صوته بالأغنيات الوطنية منها «يا أخضر وبتبقى أخضر» التي غناها للبنان. غنى لسوريا في نشيد «سورية يا حبيبتي»، إلى جانب محمد سلمان ونجاح سلام إبان حرب تشرين. كذلك، غنّى للقضية الفلسطينية «يا قدس»، وأغنية «أنا العربي». ولم يكتف بذلك، بل قدّم للأطفال العديد من الأغنيات مثل «هي هي بابا» ولحّن بعض أغنيات برنامج «افتح يا سمسم» الشهير.
مع اشتداد الحرب الأهلية، هاجر إلى أميركا عام 1981 وبدأ مرحلة جديدة من الغناء هناك، إذ افتتح مطعماً كان نجم لياليه. ثم عاد بشكل متقطع إلى لبنان، خصوصاً عام 1985 الذي شهد إصدار ألبوم نال نصيباً من الشهرة، خصوصاً أغنية «زينة الملامح أبوس روحك» من ألحانه وكلمات شفيق المغربي، ليعود بعدها إلى أميركا ويستقر هناك لغاية اليوم.