اليوم، بات يمكن القول بالفم الملآن بأنه أصبح للعرب مخرجٌ سينمائي من العيار الثقيل يعمل في هوليوود بنجاح. حقّق المخرج المصري الشاب محمد دياب (1978) ما يمكن اعتباره إنجازاً كبيراً في مسلسل «فارس القمر» الذي أنتجته شركة «مارفل» ويُعرض على شبكة «ديزني بلس»، بناءً على شخصية الكوميكس التي كتبها الأميركي دوغ مونش ورسمها دون بيرلين، عام 1975، وظهرت على صفحات مجلة «مارفل كوميكس». لم تكن شخصية «فارس القمر» رئيسية أو ناجحة للغاية، مع أنّها امتلكت ميزات تؤهلها لتكون فعلياً واحدة من أفضل الشخصيات؛ لكن طريقة تقديمها في المسلسل أعادتها إلى الواجهة، وجعلتها شخصية «رئيسية» وناجحة أيضاً.

تدور قصة المسلسل المكوّن من ست حلقات، حول «مرتزق» أميركي يدعى مارك سبكتور، يعاني من اضطرابٍ في الهوية (تسمّى الحالة علمياً Dissociative identity disorder وكانت تسمّى سابقاً بتعدد الشخصيات) بدأت معالمها تظهر في طفولته إثر علاقةٍ سيئة مع والدته التي عنّفته -واستمرت- جراء تسببه في موت أخيه الأصغر. نجد البطل منقسماً بين ثلاث شخصيات: مارك سبكتور شخصيته الرئيسية، ستيفن غرانت عالم الآثار البسيط واللطيف، جاك لوكلي التحرّي القاسي/ العنيف والحاد الطباع، ناهيك بتحوله لشخصية «فارس القمر» الخارقة. في إحدى مهماته في مصر، يلتقي سبكتور بإله القمر الفرعوني/ المصري «خنسو» (يلفظ خونشو بطريقة خاطئة في المسلسل والكوميكس) حين تعرّض لجروحٍ قاتلة. يعرض خنسو عليه أن يعطيه جزءاً من قواه، ليكون «فارسه» و«تمظهره» (avatar) ويلبسه بزة تحميه وتمنحه مجموعة من القوى الخارقة، وخصوصاً في الليل. نظراً إلى كون الشخصية «مهمة» تحتاج جهداً كبيراً (انطلاقاً من أنّه يجسّد ثلاث شخصيات)، اختير الممثل الأميركي الكوبي الغواتيمالي الأصل- أوسكار إيزاك بطلاً للعمل. إيزاك خريج «معهد جوليارد الفني» الشهير في نيويورك، هو «حبيب أعمال مارفل»، إذ أدى حتى اللحظة أكثر من شخصية في ذلك العالم: أبوكاليبس في «اكس مين: أبوكاليبس» (2016)، وشخصية «سبايدرمان 2099» في فيلم الرسوم المحرّكة «سبايدرمان: عبر العوالم المتوازية» حين أعطاه صوته.


تأثر «فارس القمر» حتى قبل صناعته بوجود محمد دياب، الشاب المصري ذو الـ 42 عاماً، خريج كلية التجارة وإدارة الأعمال الذي استهوته السينما. أصبح كاتب سيناريو ودرسها في «أكاديمية نيويورك للسينما». كما كتب في السابق سيناريوات أفلام ناجحة مثل «الجزيرة» (2007 ـــ إخراج شريف عرفة) و«ألف مبروك» (2009 إخراج أحمد نادر جلال). أثبت دياب أنّ لديه لمسته الخاصة والمسموعة لدى «مارفل»؛ إذ على ما يبدو أنه كان صاحب تأثير في اختيار ممثلين مصريين أو ذوي أصول مصرية في معظم الأدوار الرئيسية في المسلسل. بخلاف الأميركي إيثان هاوك الذي يؤدي دور «الدكتور هارو»، شرير المسلسل، حصل مصريون على أدوار البطولة. أدّت المصرية/ الفلسطينية مي القلماوي دور البطولة في العمل من خلال شخصية ليلى الفولي، التي شهدناها تتحدّث العربية بطلاقة في الحلقة الأخيرة من المسلسل. لم تكن القلماوي العربية الوحيدة في المسلسل، فكريم الحكيم ـــ وهو مدير تصوير وممثل ــــ أعطى إله القمر الفرعوني خنسو شكله وأداءه (فيما أدى صوته البريطاني ف. موراي إبراهام). عمرو القاضي، حازم ايهاب، زيزي عادل وأحمد داش كلّهم ظهروا في مشاهد متفرقة من المسلسل ولو بأدوار صغيرة. الأمر نفسه ينسحب على خالد عبد الله بدور سليم، وهو avatar للإله الفرعوني أوزيريس. ولا ننس أنطونيا صليب التي أعطت صوتها لشخصية إلهة الأطفال والولادة تاوريت التي تمثّلت بشكلها الأصلي كحيوان فرس النهر، فضلاً عن إضافة صوت الأردنية صبا مبارك للإلهة الفرعونية آميت، إلهة الانتقام والعقاب عند الفراعنة؛ وإن تحدثت الفنانة الأردنية بالإنكليزية. تعدى الأمر الممثلين، إذ شاهدنا المونتير المصري القدير أحمد حافظ الذي تولّى مونتاج الحلقتين الثالثة والرابعة. وقد أشار دياب إلى أنّ ««مارفل» انبهرت بعمل حافظ وقررت التعامل معه في أعمال قادمة». وكان حافظ قد تولى المونتاج في مسلسل «ما وراء الطبيعة» للمخرج عمرو سلامة، وفيلم «مسافر حلب-إسطنبول» (2017) ومسلسلات قيمة من نوع «غراند أوتيل». موسيقياً، أصر دياب، على التعاون مع هشام نزيه، المؤلف الموسيقي المصري ليصنع موسيقى «خاصة» بالمسلسل ذات بُعد مصري، خصوصاً أنّ الجو العام في المسلسل مرتبط بالحضارة الفرعونية قلباً وقالباً. وتكفي الإشارة إلى مشهد وصول مارك سبكتور إلى مصر، حين يظهر غناء باللغة المصرية/ الفرعونية حينما يقول المغني مصطفى زاهد جملة بالفرعونية القديمة هي: «ساونب إف وينن حاتبيك» وتعني حرفياً: «أنت تحت حماية إلهك»؛ مدموجةً مع خلفية موسيقية فخمة.
لم يكتفِ دياب بذلك، بل أصرّ على إضافة أصوات مغنين عرب معروفين إلى موسيقى المسلسل مثل وردة (أغنية «بتونس بيك»)، وعبد الحليم حافظ (مع أغنيتي «خسارة» و«شغلوني») ونجاة الصغيرة (بحلم معاك)، وصباح (ساعات ساعات). إضافة إلى ذلك، لم ينس دياب الفن المصري الحديث، فاستخدم أغنية من أغاني المهرجانات هي «ملوك» لأحمد سعد وعنبة، وأغنية «سالكة» لحسن شاكوش والرابر المصري ويجز. معظم هذه الأغنيات كان لها «مكانها»، فأغنية «ساعات» مثلاً كانت توحي بمرور الزمن، فيما «بحلم معاك بسفينة» إشارة للسفينة التي تقودها الإلهة الفرعونية تاروت لتأخذ الأرواح في عالم الأموات. لم يتوقف دياب عند ذلك، بل عمل على تقديم «ثقافة» مصرية جديدة وغير معروفة كثيراً في هوليوود. إذ اعتادت عاصمة السينما في العالم على تقديم العرب بطريقةٍ سطحية/ تسخيفية، فنراهم يتحدّثون بلغة غير مفهومة، فضلاً عن خلط جميع الثقافات العربية، فيصبح التونسي مصرياً، واللبناني مغربياً. جاء محمد دياب ليغيّر فعلياً هذه الرؤية، من خلال تصوير الشارع المصري كما هو حقيقةً. شاهدنا رجال شرطة مصريين حقيقيين بأزياء حقيقية وواقعية. كذلك شاهدنا إفطاراً رمضانياً حقيقياً في الشارع، مشابهاً للإفطارات الشعبية التي تُقام خلال شهر رمضان في مصر. وهذا أيضاً يُحسب لدياب، من دون أن ننسى أن اللغة العربية كانت ظاهرة بشكلٍ كبير على الإعلانات على الحوائط، ولافتات المحلات، وعلى تقريباً معظم التفاصيل، خصوصاً إذا كنا في بلدٍ عربي.
باختصار، كانت التفاصيل الحقيقية من سمات هذا العمل. هذا الاهتمام بالتفاصيل لم يجعل المسلسل كنزاً لعشاق الكوميكس وأعمال «مارفل» فحسب، بل تعداه إلى عشاق الحضارة المصرية، وكذلك المهتمين بصنعة/ حرفة الدراما ككل. في الحلقة الخامسة، نجد إشارة إلى مسرحية «أوديب» لسوفوكليس، حين يُشير إلى لغز الإنسان: «يسير على أربعة ثم اثنتين ثم ثلاثة». وهي أيضاً إشارة إلى حالة الاضطراب ثلاثي الشخصية التي يعانيها البطل، أو مثلاً في الكتب التي نراها في مكتبة ستيفن غرانت (الشخصية الثانية للبطل)، هناك كتاب Bad laws الذي يحكي عن القوانين المفروضة، وهي غير منطقية ولا عقلانية، في إشارة إلى القوانين التي حكمت علاقة خنسو بمارك سبكتور. كذلك نجد كتاب The man in the ice وهي رواية تحكي عن شخص مدفون في الثلج في جبال الألب. ومن البديهي الإشارة إلى الشخصيات المدفونة بداخل البطل؛ وأخيراً هناك كتاب Revealer of Secrets الذي يتناول تاريخ اليهود بطريقة ساخرة، وهو إشارة إلى أصول البطل اليهودية. يُضاف إلى كل هذا الإشارة إلى شعر الفرنسية مارسلين فالمور من خلال الشعر الذي يقرأه البطل لزوجته في الحلقة الثانية.
قدّم «ثقافة» مصرية جديدة وغير معروفة كثيراً في هوليوود

كل هذا ولا ننس استخدامات أغنيات مشهورة ــ غير عربية ـــ كأغنية «رجلٌ بلا حب» (A Man Without Love) التي تعود إلى عام 1968، وأغنية بوب ديلان «كل ذرة من رمال» (Every Grain of Sand) التي تعود إلى عام 1981، و«أيقظني قبلما ترحل» (wake me up) لفرقة «وام» من عام 1984. وقد تم استخدام كل واحدة منها لتحيل إلى تفصيل من حياة البطل. في المسلسل، جهدٌ كبير يُحسب للمخرج قبل أي شيء، إذ إنه أضاف كثيراً للعمل، كل حلقةٍ على حدة. ويكفي أن نشير إلى أن موقع IMDb الشهير أعطى الحلقة الأولى من المسلسل تقييم 8.7 من عشرة لتصبح الحلقة الأعلى تقييماً ضمن مسلسلات «مارفل».
اهتم دياب بعمله كثيراً ليخرج أفضل ما لديه خلال عمله على مسلسل «فارس القمر». ولا شكّ في أن هذه التجربة ستفتح الباب على اتساعه أمام المخرج الشاب الذي ينتظره بالتأكيد مستقبلٌ باهر؛ ناهيك بأنّها ستكون بمثابة تظهير لمواهب المخرجين العرب الذين يستحقون فرصة في هوليوود.

* «فارس القمر» على شبكة «ديزني بلس»