رحلة الغربة والمنفى تَسِمُ المعرض الكبير للفنان الفلسطيني طارق كسوانسون في «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا). تحت عنوان «وَكنْ»، يضمّ المعرض أعمالاً متنوّعة بين الرسم والفيديو والتجهيز. على رغم أنّ كسوانسون مولود في السويد، إلا أنّ ذاكرة فلسطين الأليمة ماثلة في معرضه، ومثلها الهوية والموروث الراسخان في تعبيره الفني. يتميز المعرض بتنوّع المفردات والوسائط والمواد التي يمزج بها الفنان جديده وقديمه، مستفيداً من جدران المكان وأرضيّته لتوزيع أعماله بالفحم أو بالحبر الأسود… سواد بسواد ولا غرابة. شكلان بيضاويّان، غامضان ومألوفان في آن، يحتلّان الزوايا المحيطة. أحدهما داخل إطار باب، وآخر معلق على الحائط. «المهد» مقابل «عش الطير». وكلا الشكلين يستدعي العالم الطبيعيّ، يمكن النظر إليهما بوصفهما ملاذاً للفنان حين يعيش تجربة تحوّلية وتعبيريّة.سلسلة حديثة من الأعمال ذات وجوه متعددة، وحالات متنوّعة من الركود. شمعة مسيّجة براتينج شفاف تذوب بعيداً في الهواء (الراحة). والأعمال المعلّقة في الفسحات ذات شكل بيضاوي، بعضها على جدار وبعضها الآخر معلّق، ولا وقوع في التزيينيّة أو التهميش، بل دلالات للأماميّ والخلفيّ، أبعد من المدلول المباشر. وفي الهدف لعبتان: أولاهما استخدام الأشياء بأحجامها ومسمّياتها داخل فضاءاتها الجدارية التي تبدو مثل منمنمات، وثانيتهما اللوحة الفحميّة المتميّزة بقوة الضربة وكثافة الطبقات. يجمع الفنان هنا أشياء تعود إلى أفراد عائلته، محاولاً التوفيق بين إرث ناجز، وراهن متحرّك نشأ هو فيه، ومن هنا الجمع بين أزياء تقليدية وأخرى معاصرة، عند نقطة تلاقٍ بين الماضي والحاضر. يوسّع أحياناً رؤياه الجامعة (غير التجميعيّة). توحي رسومه ببودرة الفحم ما يسمّى «العابرة» أي النافذة حيث الأطفال عالقون عند عتبة الرؤية.
بين اللوحة سميكة الطبقات وغموضها وإيحاءاتها، والأشياء الآنفة الذكر، مناخان يلتقيان عند عالمَي الطفولة والعائلة في جانب، والحاضر الذي تغلّفه الغربة والحداثة وما بعدها في جانب آخر. نكاد نقول إنّ هذا الفنان استحضر ذاكرته وحنينه وقسوة ما يحياه في السويد. هو من فنانين قلّة يلامسون فنّ ما بعد الواقع أو ما بعد الحداثة، والافتراضيّ لديه هو ماضٍ افتراضي مثلما هو المستقبل أيضاً.
تشكّل جذور الانتماء تيمة مركزية في أعماله، فضلاً عن الهويات الهجينة المتمازجة والسياقات المتعدّدة

والمتخيّل، وإن يكن ملموساً وبأدوات يومية أو ملامساً مناطق الحواس (الأذن، الرأس، اليد…) يتأرجح بين الحرفيّة والتكوينيّة، ومنها تبرز ملامح ما بعد الحداثة متجاوزةً الموروث وارتباطاته، من دون تسليع أو فولكلور خاص بمناسبات محدّدة. أما فيديو «السقطة» في نحو سبع دقائق، فهو تكملة لمناخات المعرض وفيه لقطات متكرّرة لفتى في مقتبل المراهقة يسقط عن كرسي إلى الخلف. تعبر الصور بحركة بطيئة، فيما تدعونا قاعة التدريس الفارغة، حيث الفتى موجود، إلى دخول فضاء زمنيّ معلّق أو لحظة معلّقة بين سقطتين. مشهد مجزّأ إلى لقطات منفردة ترسم في النهاية حركة السقوط رغم كثافتها وحدّها الزمني.
ولد طارق كسوانسون عام 1986 في مدينة هالمستاد السويديّة، بعدما هاجر والداه في مطلع الثمانينيات. اضطرا إلى تغيير اسم العائلة الأصلي (الكسوانيّ) لأسباب تتعلّق بـ «الاندماج المجتمعيّ». لذا تشكّل جذور الانتماء تيمة مركزية في أعمال الفنان، فضلاً عن الهويات الهجينة المتمازجة والسياقات المتعدّدة. أضف إلى ذلك السرديّات الذاتية واللغة والموروث والهويّة المتحوّلة.

* «وَكنْ»: حتى 13 آب (أغسطس) ـــ «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا) ـــ للاستعلام: 01/566550