أن تقتل إسرائيل مواطنين فلسطينيّين في الأراضي المحتلة، بسبب أو من دونه، يكاد يكون حدثاً يومياً لدى جيش الاحتلال وقواته الأمنية. الشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي قتلها قنّاص إسرائيلي، لا تشذّ عن القاعدة المتّبعة لدى الاحتلال. هي مجرّد عملية قتل جديدة تُضاف إلى سلسلة عمليات القتل اليومية، لكن أن تكون مراسلة قناة واسعة الانتشار، تحوز أيضاً الجنسية الأميركية، فسيكون الاهتمام أعلى درجة نسبياً.بوصفها صحافية، ليست أبو عاقلة الأولى التي يستهدفها الاحتلال بدم بارد، ولن تكون الأخيرة. مع كلّ عملية قتل، تأتي روايات التبرير العبرية لتحوّل الضحية إلى جلّاد. بل إنّ بيانات الجيش الإسرائيلي لا تسند عمليات القتل إلى جنوده وضباطه، وإن كانت الأدلة ظاهرة. الجملة المتداولة في البيانات الإسرائيلية في حالات مماثلة هي: قُتل هذا أو ذاك من الفلسطينيّين، خلال عمليات قام بها الجيش الإسرائيلي، مع إبقاء الفاعل مجهولاً. هذه هي السّمة المشتركة لبيانات الاحتلال لدى قتله الفلسطينيّين كما حالة الشهيدة أبو عاقلة.
وكالعادة في حالات مماثلة، يعمل الجيش الإسرائيلي، مع المؤسّسة السياسية والإعلامية، بهدف التخفيف من تبعات القتل، خصوصاً في حال كانت الضحية صحافياً، أو عاملاً في الجسم الطبي، وغيرهما من المهن التي تسبّب حرجاً لتل أبيب. إذ إنّ اقتران عملية القتل بقواتها، تقلب جهودها المبذولة في تقديم نفسها الضحية في صراعها مع الفلسطينيّين، رغم أنها هي الجهة التي تحتل الأرض وتغتصب الحقوق وصاحبة القدرة والسطوة الأمنية.
مع انتشار خبر استشهاد أبو عاقلة، بدأت المساعي الإسرائيلية لاحتواء التبعات. في حالات مغايرة، كان البيان الإسرائيلي ليُشير إلى رقم فلسطيني آخر قُتل خلال نشاط الجيش الإسرائيلي، أو لا يذكر الضحية من الأساس. لكن وفقاً للإجراءات المتبعة التي تنطبق على حالة أبو عاقلة، فالأمر يتطلّب جهداً إضافياً احتوائياً: إنكار أوّلي، ومن ثم الإقرار بـ«الوفاة» مع العمل بجهد على تجهيل القاتل؛ إلى أن تتحول «الحادثة» إلى أحجية مع سؤال كبير يوحي بأن الفلسطينيّين يتحمّلون مسؤولية القتل.
سرديّة المراحل المتعلّقة بمسعى إسرائيل للتملّص من مسؤوليتها، تعدّ جزءاً لا يتجزأ من مواجهة التداعيات، وهو ما حصل بالفعل: بيان الجيش الإسرائيلي جاء خبرياً: وفاة مراسلة صحافية خلال نشاط للجيش في مخيم جنين؛ ومن ثم، دفعة واحدة، تقارير عبرية تتحدث عن هوية القاتل، مع سؤال بارز: هل قتل الفلسطينيون أبو عاقلة؟ هذا التجهيل ومن ثم التملّص، تواكبه تصريحات تصدر على المستوى السياسي. وفي هذه الحالة ربطاً بالإحراج (صحافية تحمل الجنسية الأميركية)، ينبري رئيس حكومة العدو نفتالي بينيت ليقول بأنّ فلسطينيّين مسلحين يتحمّلون على الأرجح مسؤولية مقتل الصحافية الفلسطينية، رابطاً موقفه ببيان وزير أمنه بني غانتس، الذي أورد أنّ التحقيقات الأولية لم تظهر أنّ الجيش الإسرائيلي أطلق النار على أبو عاقلة! وصدر عن الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي بأنّ قواته أطلقت النار رداً على تعرضها لنيران كثيفة في جنين، مضيفاً أنّ ثمة احتمالاً وهو محلّ بحث حالياً، بأنّ المراسلَين الاثنين أُصيبا ربما بنيران أطلقها مسلّحون فلسطينيون. ولاحقاً، بعد هذا التمهيد، صدر عن الناطق باسم الجيش الإسرائيلي بيان آخر، أورد أنّ «إطلاق النار العشوائي من قبل مسلحين فلسطينيّين اليوم الأربعاء في مخيم جنين، أدى حسب التقديرات الأولية إلى مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة». ويكفي أن تتداول وسائل الإعلام الأجنبية تعليقات بينيت وغانتس والناطق العسكري، لتتحقّق مهمة تعمية الحقيقة وتسويفها.
لاحقاً، حوّلت إسرائيل حادثة قتلها أبو عاقلة إلى سجال ما بعد القتل مع السلطة الفلسطينية، عبر حديثها عن عرض تقدَّم به الجانب الإسرائيلي للسلطة، لإجراء تحقيق مشترك، لكن من دون أي ردّ من السلطة في رام الله، في حين أن السلطة ردّت على الادعاء الإسرائيلي، بأنّ لا طلب وردها من إسرائيل، يتعلق بتحقيقات مشتركة في عملية القتل. لكن مجرّد الحديث عن التحقيق المشترك وتداوله، كان كافياً كي يتحرك مصدر أمني إسرائيلي رفيع المستوى، متحدثاً إلى أكثر من مراسل لوسيلة عبرية وأجنبية، قائلاً: «رفض الفلسطينيون التحقيق المشترك، وقاموا فوراً بدفن الصحافية أبو عاقلة، ما يعني أنّ الفلسطينيين دفنوا الحقيقة معها».
قتل يدخل في صلب الهوية الصهيونية ويخدم مخطّطاتها في إرعاب الفلسطينيين وردعهم


خلال عملية «سيف القدس» العام الماضي، قتلت إسرائيل 16 صحافياً. قبلها أيضاً، قتلت صحافيّين ومراسلين وطواقم إسعافية في أكثر من مناسبة وموقع. في كل حالة من هذه الحالات، كانت الضحية هي جلاد نفسها، على أن تراوح الروايات العبرية ــ وفق حراجة عملية القتل وتداعياتها ــ بين التهميش الكامل، والحديث عن تحقيقات لن تسفر عن أي نتيجة، بل كانت في معظمها تلقي المسؤولية على الفلسطينيين، أو على الضحية نفسها.
الأرجح أن يستمر الحديث عن الجريمة في الأيام المقبلة، مع استمرار محاولة إسرائيل طمسها. لكن الجريمة كما غيرها من الجرائم التي ارتكبها الاحتلال بحق الصحافيين أو المدنيين الفلسطينيين، لن تحدّ من شهية الاحتلال للقتل بدم بارد. هو قتل يدخل في صلب الهوية الصهيونية ويخدم مخططاتها، في إرعاب الفلسطينيّين وردعهم وإذلالهم.