لا تحتاج الشهيدة شيرين أبو عاقلة إلى شهادة شاهد ولا إلى شهود عيان، فالشهود على تغطيتِها حروبَ من اِحتلّ على من اُحتلّ عبر ربع قرن ... يُعدّون بمئات الملايين. لكن لا يعلم كثيرون ربّما أنها كانت أكثر مراسلي الحروب هدوءاً فوق هذا الكوكب الأزرق إلى أن غادرته: لا تتجهم، لا تنفعل، لا تصرخ، لا تستعرض، ولا تتأفّف، لا أمام الصديق ولا أمام العدو. كانت مثل فراشة فوق حمم البركان، هي «العاقلة»، كما كان الزملاء يتندّرون تحبّباً على اسم جاء على مسمى، وعلى وداعةٍ تثير الشك بأنّ حتى لوحة الوجود لا تخلو من لمسات فوتوشوب، على الأقل في حالة هذه الفراشة، على الأقل في حالة ذاك البركان.
■ ■ ■

كانت كجدّها الأول تسير فوق الماء. حتى مشهد دخولها الأبدية أبتْ إلا أن يكون خفقةَ جناحٍ مُرهف: نزلت من السيارة على مشارف مخيم جنين، سارت مع من سار، ثم هوَتْ: بلا ضجيج إلا صدى الرصاص. صاح أحدهم: «شيرين، شيرين، ... يا عمي شيرين». الكل يصرخ، وهي صامتة. صاح الصائح مجدّداً باللهجة المحببة: «خليكي محلّك… ما تتحركيش!». الكلّ يتحرك وهي ساكنة. «لا توصّي حريص» - أو بالأحرى حريصةً - يا صاح! مَن عبر بوابة الضوء وألقى عن كتفيه ثِقلّ قدرٍ عنوانه الاحتلال من الميلاد إلى الممات سيحتاج قسطاً من الراحة في ملكوت السكينة والرحمة والسلام.
■ ■ ■

لكن لا ينخدعنّ أحدٌ بتلك «العاقلة» ولا بذاك «الهدوء». كان جنون الرمزية يصخب في ثنيات لوحة الختام التي لم تكن - ولن تكون- من صنف «طبيعة صامتة». لوحة يتمدّد فيها الجسد الفلسطيني أمام جذع شجرة لم يسعفه الوقت ليعانقها، ويلتصق بجدار حالت سرعة الرصاصة دون أن يحطمه. لا يسألن أحدٌ هذا الجسد بعد اليوم: «لماذا لم تدقوا جدار الخزان؟». ثمة امرأة تحت الشمس دقّته - بهدوء - لربع قرن على الشاشات، ودقت معه جدران ضمائر ومحافل ومؤتمرات. قولي لغسان كنفاني حين ترينه أنك دققتِ ودققتِ، وبقيتِ تدقين بجلال، حتى رشح الدم من جناحي الفراشة ورأسها والأكفان.
■ ■ ■

«أبانا الذي في السموات! لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض». ولتكن لتلك الفراشة في ملكوتك مساحة جناحين في عالمٍ لا ينشغل بقضايا «الحرب في أوكرانيا» و«معاداة السامية» فحسب، عالمٍ لا يعرف الإتجار بالأعضاء ولا الإتجار بالأرواح، عالم لا مساحة فيه «للتعاون الأمني» بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يعرف الاحتلال ولا الدعاية والتلاعب بالأخبار. شيرين لم تعتدِ بالرأس على رصاصة إسرائيلية كانت تحلق بسلام، وليست صحافية «فلسطينية-أميركية» سقطت برصاصة إسرائيلية، بل فلسطينية استشهدت برصاصة إسرائيلية-أميركية، باسم كل من يدقون الجدران برؤوس مثقوبة بالرصاص في هذا العالم من المظلومين. آمين

* صحافي سوري كان زميل الشهيدة في قناة «الجزيرة» لغاية 2012